تشكل الفردية في المنطقة العربية مساحة محدودة في التعبير عن الذات وفي التأثير على المعطيات العامة للجموع. تحدق في الناس فلا تفهم لماذا يلبسون بهذا الحد الكبير من التشابه، أين الذوق الفردي فيما يلبسون. وعندما تسألهم تكون الإجابة (كل ما يليق لك والبس ما يليق للناس). فتحاول ان تشاهد الى أي مدى يبدعون في مطابخهم وتكتشف أن أغلبهم يوميا يأكلون نفس الأطباق وبنفس الطريقة. تكون الفروق فقط ذات علاقة بالجغرافيا، فلو أنهم من سكان الجبال كحال ثلث سكان اليمن فإن طريقتهم في الأكل واللبس مرتبطة بحال الطقس والبرودة ووجود مواد زراعية تعتمد على الحبوب وبالذات القمح والذرة، لذلك يأكلون الخبز واللحوم بصفة غالبة. ويلبسون ملابس تقاوم البرودة. ولوتوجهت نحو السواحل وهو حال ثلث من السكان اليمنيين فستجد أن السمك والرز هي المواد الرئيسة في التغذية، والملابس الخفيفة هي السائدة. والحال نفسه مع بقية السكان الذين يعيشون في الصحاري أو بالقرب منها. فلا ذوق شخصي في الأكل ولا ذوق شخصي في اللبس. كيف يحدث ذلك ومتى؟ يقول المختصون أن التنشئة الاجتماعية هي المسؤولة، فالأفراد يتم تربيتهم على أساس التدجين الغالب كي يصبحوا مشابهين لغيرهم، لأنهم إن لم يفعلوا تواجه ادوات الضبط الاجتماعي مشكلة في كيفية التعامل. وفي هذه الحال يصعب ايجاد مدارس خاصة للموهوبين، لأن التفوق وحده يمكن فهمه أما الموهبة فخروج عن المعتاد مما يجعل المجتمع ككل يفقد السيطرة ويصاب الموهوبون بحالات من الضغط تؤدي الى الأمراض النفسية والعصبية. الحشد يكسب: الحشد هو تجمع مزدحم للبشر دون عقل أو موجه. يمكن له التحرك في حالة المظاهرات والمسيرات طبقا لخطوط أولى مرسومة ثم يفقد المعنى للمسير إذا استغلته بعض الأصوات وهتفت بما يذكي الحماس. وفي المنطقة العربية من القضايا ما يمكن له أن يجعل أي سير للحشود ممر للإنفلات. فداخل الجماعة المحتشدة يفقد الفرد الذي لم يتربَ على التفرد أي قدرة على السيطرة على ذاته ويصبح كالعجينة السائغة في يد من يقود. وهذه الأيام يمتلئ التلفاز بصور التجمعات الكبيرة من الحشود المتشابهة، الذين يعبرون عن آلام واحدة، وأفكار غاضبة، وانفعالات صارخة، تبدو وكأنهم صاروا شخصاً وصوتاً ومشهداً واحداً. لكنك لو توقفت قليلا مع واحد منهم وبدأت النقاش بهدوء لانفرج الوجه عن حالة حيرة وعن نقص في المعلومات. الانصهار في الحشد سهل، ورغم خطورته فإنه للفرد حالة أمان. تماما كالملابس المتشابهة والأكل المتشابه. الفرد في هذه الحال حتى في حياته الخاصة جزء من المجموع، لا تتضح قوة انصهاره فيما حوله إلا عندما يجد نفسه داخل مسيرة. أما التفرد والمسؤولية الفردية فهي جهد يحتاج تفكير وتربية تفوق ما هو متاح للأمة حتى الآن. [email protected]