لو كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية تجري حسب استطلاعات الرأي التي تطالعنا يومياً لكانت النتيجة " محسومة " للسناتور باراك أوباما الذي تظهره هذه الاستطلاعات متقدماً على منافسه السناتور جون مكين بصفة مستمرة . وعلى الرغم من أن هذه الاستطلاعات تقوم بها مؤسسات متخصصة موثوق بها كمؤسسة قالوب وغيرها وأحياناً بالاشتراك مع مؤسسات صحفية مقروءة عريقة مثل نيويورك تايمز أو واشنطن بوست أو لوس أنجلوس تايمز أو مرئية شهيرة مثل سي إن إن، وسي بي إس، وايه بي سي، وإن بي سي، وجميعها تجري بطريقة علمية مدروسة يُعتمد عليها، إلاّ أنها في النهاية ليست " دائماً حاسمة " ، فأحياناً تتغير النتائج عند إجراء التصويت الفعلي لأسباب مختلفة، منها أن بعض الناخبين يغيرون رأيهم لأنهم أساساً لم يكونوا متأكدين تماماً من اختيارهم عند استفتائهم، ومنها أن بعضهم يغير رأيه ويعطي صوته للمرشح المنافس وذلك عندما يرى أن مرشحه يتفوق على منافسه بنسبة كبيرة فيخشى إصابته بثقة مفرطة ربما تؤثر على قراراته بعد الفوز . وبعضهم يتحول للمرشح المنافس " تعاطفاً " معه كما حدث مع السناتور هيلاري كلينتون أثناء حملات الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي والتي كانت متخلفة فيها حسب استطلاعات الرأي عن أوباما ثم ماستطاعت أن " تقلبها " إلى فوز جيد عليه وليس بالمستبعد بتاتاً أن لا تخطئ استطلاعات الرأي رغم المصداقية العالية التي تتمتع بها، فيأمل الجمهوريون أن تتكرر انتخابات عام 1948م عندما أوقفت مؤسسة قالوب العريقة منذ 60 عاماً استطلاعاتها قبل أسبوع من إجراء الانتخابات وقررت فوز توماس ديوي على منافسه هاري ترومان بناءً على استطلاعاتها الموثقة . ولكن حدث العكس بالطبع حيث فاز ترومان بالرئاسة . وبعيداً عن استطلاعات الرأي، فالحقيقة أن كلا المرشحين لديه حظاً وفرصة للفوز، وإن كان ظاهراً وواضحاً أن حظ أوباما هو الأوفر بدون شك . فمن ناحية جون مكين فهو يتمتع بمزايا عديدة منها أنه من أكثر إن لم يكن أكثر الجمهوريين احتراماً لدى زملائه الديموقراطيين، فهو مشهود له بوضع مصلحة البلاد فوق مصلحة الحزب عند التصويت في الكونغرس على أيّ مشروع أو قانون مما أكسبه المسمى الذي أُشتهر به " مافرك "Maverick أي الخارج أو المستقل عن حزبه، كما أنه يعتبر بطلاً قومياً حيث أُسر وعُذِّب أثناء الحرب الفيتنامية لعدة سنوات دون أن يفشي أي أسرار أو يقدم أيّ تنازل للعدو . وقد أمضى السناتور جون مكين سنوات طوال جداً في الكونغرس عضواً ورئيساً للجان هامة مما أكسبه خبرة واسعة كثيراً ما يؤكد على أهميتها لتأهيله لمنصب الرئاسة، وفوق ذلك كله أنه كثيراً ما عارض الرئيس جورج بوش علناً في قراراته، وحتى في موافقته على الحرب في العراق فله تحفظاته واعتراضاته العلنية على سوء إدارتها . أمّا العوامل التي قد تقف ضده فهو أنه يعتبر كبيراً جداً في السن لشغل هذا المنصب الهام، وأنه أيّد الحرب على العراق لأسباب لم تكن مؤكدة وهي امتلاك الرئيس العراقي صدام حسين لأسلحة دمار شامل تهدد أمن الولاياتالمتحدة وحلفائها وعلاقته بالقاعدة . وهذه الأسباب لم تكن مثبتة ومؤكدة حينئذ ولذلك يُؤخذ عليه هذا الموقف . وغني عن القول إن هذه الأسباب ثبت بطلانها حيث لم تكن هناك أسلحة دمار شامل اطلاقاً ولم يكن لصدام حسين أي علاقة بالقاعدة . كما أن حقيقة كونه عضواً هاماً في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه رئيسه جورج بوش أفقده الكثير من تعاطف الناخبين الأمريكيين فهبوط شعبية الرئيس بوش لهذه الدرجة غير المسبوقة " %" 29 تعتبر " الأسوأ " لأيّ رئيس أمريكي، وهي بالتأكيد تنال من أيّ مرشح ينتمي لنفس الحزب ونفس الأفكار والمبادئ . وإذا أتينا إلى المرشح الديموقراطي باراك أوباما ومزاياه والعوامل التي عمل لصالحه فإن أول وأهم هذه العوامل في رأيي ورأي بعض المحللين السياسيين هو أنه جاء في " الوقت المناسب " حيث إن مرشح الحزب المنافس ينتمي لرئيس لا يحظى بشعبية تذكر وارتكب أخطاءً جسيمة لا تنسب له وحده بل وغالباً لحزبه . وأولها حرب العراق غير الضرورية اطلاقاً والطويلة والتي أدّت إلى مقتل نحو 4200 قتيل أمريكي وحوالى 900 ألف قتيل عراقي وكلّفت الشعب الأمريكي أكثر من 600 بليون دولار، وذلك في الوقت الذي لم يستطع فيه بوش أن يلقي القبض على العقلين المدبرين لهجمات 11 سبتمبر أسامة بن لادن وأيمن الظواهري كما وعد وتوعّد منذ سبع سنوات . ومن أكبر المساوئ التي تؤخذ على بوش وبالتالي على حزبه ومرشح الحزب أن الدَّين القومي الأمريكي تم رفع سقفه إلى أكثر من 10 . 6 تريليون دولار وهو رقم فلكي لم تشهده أمريكا في تاريخها، وزيادة على ذلك فإن " الفقر " في الولاياتالمتحدة بعد سنوات من " تراجعه " في عهد الرئيس كلينتون أخذ في الارتفاع في عهد بوش وحزبه الجمهوري بواقع 5 . 7 مليون مواطن كما ازداد عدد المواطنين الأمريكيين الذين لا يحظون بأيّ تأمين طبي إلى سبعة ملايين مواطن منذ عهد بوش . وإذا أضفنا المزايا الشخصية للسناتور أوباما فلا عجب أن نرى تقدمه في استطلاعات الرأي، فهو يمتلك شخصية جذابة للغاية أو ما يسمى " كارزما " إضافة إلى تمتعه بذكاء نادر وبلاغة خارقة ونيله أفضل تعليم جامعي في أعرق جامعات أمريكا " هارفارد " كما أنه يعتبر رب أسرة مسقيم وصاحب أخلاق سامية لم يستطع أعداؤه أن يدنّسوه رغم كثرة محاولاتهم . ويبقى عامل اللون الأسود لهذا الشاب المقدام والذي يلعب دوراً هاماً هنا بالتأكيد، والحقيقة أن هذا العامل يمكن اعتباره " سلاحاً " ذا حدين، فهو يعمل لصالحه لدى الناخبين السود حيث وصل التصويت له لأكثر من % 97 بين الناخبين السود، كما أن نسبة الشباب " بيضاً وسوداً وذكوراً وإناثاً " الذين يصوتون لأوباما فوق % 70 وهي نسبة لم يحظ بها أو حتى يقترب منها أيّ مرشح في تاريخ أمريكا، ولكن في المقابل فعامل اللون أبعد بعض كبار السن من البيض من التصويت له، وتؤكد استطلاعات الرأي أن نسبة هؤلاء قليلة . ومن أهم مزايا السناتور باراك أوباما إضافة إلى كل ما سبق هو شعاره الذي رفعه منذ بداية حملته وهو " التغيير " فرؤيته لمستقبل أمريكا هي بالتأكيد رؤية صائبة وطموحة وتحمل الكثير من الأمل المشرق والمبادئ النبيلة، فلا غرابة أن نرى اليوم أول رئيس أمريكي أسود كما رأينا قبل حوالى خمسين عاماً أول رئيس كاثوليكي ويحمل نفس المزايا والرؤية والكارزما والذي كان جون كنيدي وسيكون اليوم باراك أوباما .