قبل ستة عقود نبت كفسيلة عرعر في قرية جنوبية صغيرة ببني كبير غامد . . تفتحت عيناه لرؤية الوجوه السمراء التي حوله . . لم ير الوجه الذي يمحضه برعايته . . غيبه الموت . . يلثغ كأي طفل يتيم . . حامد . . حامد . . باحثاً عن وجه أبيه . . يتماهى صوته في جنبات الجبال و الشعاب ويرتد إلى أذنيه . . لامجيب . . بحزن ينكفئ إلى الفراش ليخلد في نوم قلق . . تولى صهره رعايته . . وظل أحمد يبحث عن وجه أبيه في طرقات القرية وأوراق أشجارها ووجوه الأهالي ومرايا الغدران والآبار . . يعود إلى منزل صهره بائساً متألماً لايدرك بعد معنى الموت . . معنى الرحيل الدائم . . انضم مع رفاق عمره إلى مدرسة بني كبير الابتدائية وتعلم الحروف الأبجدية تارة يرسم الألف كغصن الشجرة وأخرى يسقطه كأغصان الأشجار الهرمة التي تتحطم بفعل نزوة الرياح . أدرك بفطنته المبكرة أن ذلك الوجه المضيء لن يراه . . بل انطبع فقط في ذاكرته كوشم أبيض مضيء . . يبرق تارة . . ويخفق تارة أخرى . التعليم آنذاك أساسه العصا . . من يحفظ ينجح . . فيما كان سكان القرى يتطلعون إلى المدن البعيدة . . فينساب الماء رقراقاً إلى الشمال . . وظل أحمد . . أسير البقاء نظراً لصغر سنه . . النساء وقتها كن يحرضن على الهجرة . . لأنها الرجولة في نظرهن . . اتقدت في ذهنه فكرة الرحيل . . من أجل لقمة العيش . . اشتعل في رأسه الصغير العمل في صناعة أرغفة الخبز للأفواه الجائعة . . راق له ذلك . . وحمل بقشته الصغيرة وآماله الكبيرة . . ليقف في أكناف القرية . . ويدقق النظر في بيوت بني والبه لتذرف عيناه دموعاً ساخنة مودعاً صهره وأخته . . منازل القرية . . شويهاته . . الجداول التي رسم حولها الكثير من الذكريات الطفولية . . ليستقر به المقام في جفون البحر الأحمر مدينة جدة الساحلية . . ليشاهد وجوهاً غير تلك الوجوه القروية . . ويسمع كلاماً غير الذي ألفه في مجالس القرية . . مدينة تضج بالمباني . . والسكان . . مدينة تبتلع كل شيء . . في مطابع الأصفهاني . . ابتلّت أصابعه بأحبار المطبعة . . وبدأ يشكل بأنامله الصغيرة الحروف لتظهر بأشكال مدهشة . . مقالات . . وأخبار . . ومواضيع تصافح أعين القراء . . التذ بهذا العمل . . واستمر في عصامية فريدة يعمل في صمت وكفاح . . مقالات كبار الكتاب أمثال الزيدان ، العطار ، الأنصاري ، وأبي تراب . . خبزه اليومي يقرأ بوعي . . ويحاكي تلك القامات الفارعة . . ويحاورهم . ذات يوم في عام 1381 ه احتج العمال الأجانب لغرض سياسي . . وكادت تروس مكنة الطبع أن تتوقف . . ليقع المسؤولون في الصحيفة في حرج كبير أمام الرأي العام . . فأخذته الوطنية الصادقة والعشق الحقيقي للعمل . . لأن ينقذ المؤسسة الصحفية . . وبالفعل تحولت أنامله إلى قصيدة شعر . . تترنم بإيقاع شجي . . لتظهر صحيفة البلاد في اليوم التالي مشرقة . . أصيب عندها المحتجون بخيبة كبيرة . وزاد هذا الموقف الوطني النبيل من شأنه . . وأصبح علامة بارزة في الوعي والنبل والذكاء . . وتدرج حتى أصبح مدير الطبع الصحافي بشركة المدينة . . ورغم بعد قريته . . إلا أنها مضيئة في تلافيف ذاكرته . . إذ كتب سلسة مقالات بعنوان ' كيف تنمي البادية تطورها ' وذلك أثناء عمله بمطابع الندوة في مكةالمكرمة . الحنين الطاغي لقريته أعاده عام 1396ه ليدير الشركة الأهلية للكهرباء . . ولايختلف هذا العمل عن ممارسة الإضاءة سواء كانت فكرية أو مادية ولكون الصحافة تجري مجرى الدم في أوردته . . حرص على تأسيس مكتب لصحيفة المدينة في مدينة الباحة وعمل مديراً له . . وواصل عشقه وولهه من خلال استطلاعات صحفية متمكنة وأخبار متميزة وتحرير صفحة أسبوعية مع زميله الأستاذ عبدالناصر الكرت بعنوان ' نسيم الباحة ' كان لها شأن في رفع رصيد السياحة في المنطقة . اختزلت ذاكرته أشياء ذات قيمة كضرورة وجود مطبعة في منطقة الباحة . . لأهميتها في التنامي الثقافي في المجتمع القروي . . وبالفعل أوجد أول دار للطباعة في المنطقة تحت أسم ' دار الغامدي للطباعة ' على وزن الأصفهاني للطباعة ليسهم في نشر النتاج الثقافي والفكري للمبرزين من أبناء منطقة الباحة أدرك معالي أمير منطقة الباحة سابقاً الشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز بن إبراهيم رحمه الله . . بفطنته . . ووعيه الإداري قدرات وإمكانات أحمد المساعد . . عينه أميراً لبلدة باللسود في قطاع تهامة الباحة وكلفه بتأسيس إدارة للعلاقات العامة في ديوان الإمارة لأول مرة . . ليمارس هذا العمل في أهم وأكبر إدارة حكومية في الباحة . . وبعد رحيل ابن إبراهيم ترأس مكتب الدكتور إبراهيم الزيد - شفاه الله وعافاه - والذي كان أميراً للمنطقة بالإنابة ليستلم فيما بعد مكتب سمو نائب أمير المنطقة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن محمد آل سعود والذي قال في إحدى اللقاءات بنادي الباحة الأدبي بأن أحمد المساعد أحد الكفاءات الإدارية المتميزة والذي استفدت منه . . ولابد للحصان أن يستريح بعد مشاوره الطويل حيث أحيل للتقاعد عام 1419ه وبما وهبه الله من ثقافة اكتسبها من خلال القراءة الواعية . . والاستفادة من عمالقة الفكر والصحافة رأى ضرورة اختزالها ونشرها من خلال زاوية صحافية بعنوان ' نقاط على الحروف ' واستمرت بضع سنين ليصدر فيما بعد أول ديوان شعري له ' شجن القوافي ' كما أنه يعتزم إصدار رواية بعنوان ' هروب في السحر ' وسيرة ذاتية بعنوان " يتيم تحت الشمس " وفي التشكيل الثاني لمجلس إدارة النادي الأدبي بالباحة انتخبه أعضاء المجلس رئيساً لهم لثقتهم فيه ومكانته الثقافية والاجتماعية والفكرية . . وهاهو يدير أهم مؤسسة ثقافية في الباحة بعد كفاح طويل من اليتم والعمل الصحفي الدؤوب . . لم يثنه اليتم عن عصاميته الفريدة . قال عنه الأديب والكاتب الصحفي الأستاذ عبد الله جفري - يرحمه الله - في مقاله نشرت له عام 1392ه : أحمد حامد الغامدي تذكروه جيدا إنه يشب عن الطوق وبين الحين الآخر يسلمنا مقالات تحمل أفكارا جيدة وأسلوبا حلوا وننشرها له في " البلاد الأسبوعية " إنه الذي يصف كلماتنا هذه لتقرؤوها ومن زمن ونحن نعرفه مجتهدا وطموحا وأحيانا يأتي إلي ليقول عليك غلطة نحوية في ظلال وأطلب منه أن يصححها وأفرح بملاحظاته فهو يتعلم ويحاول ويصر على التفوق والإجادة إنه شاب من صميم هذا التراب ولا بد أن يكون يوما ما عطاء ثرا .