أفاد إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي، بأن العبدالمؤمن جادّ في سيره إلى الله، مثابر في طريقه للوصول إلى مرماه، لا يوقفه عن هدفه عارض، ولا يعيقه عن الوصول إلى مبتغاه عائق؛ لأن ما هو فيه من المهام العظام والمقاصد الجسام يمنعه أن يلتهي عنه بشيء يرديه، أو أن يلتفت عنه لما لا يعنيه؛ حيث عزم على السير، وجّد وشمّر عن ساعد الجد. ودعا "غزاوي"، في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم، إلى التعرف على هذه الحقيقة من خلال معرفة هديه صلى الله عليه وسلم والمنهج الذي سار عليه؛ لنلزمه ونكون على الجادة. وقال: روى الحاكم في "المستدرك" عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى لم يلتفت"، والمعنى أنه كان يواصل السير، ويترك التواني والتوقف، وتلكم الخصلة حريّ بالمرء أن يتلافاها؛ فتلفّته في المشي يمنة ويسرة دون النظر أمامه يبطئ السير في الطريق ويسبب التواني والتوقف والتلكؤ في المشي، وهذا خلاف هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا مشى لحاجة مشى ومضى وعزم، ولم يكن يتباطأ في مشيته؛ فمتى لم تكن للمرء حاجة للتلفت حال سيره، فيقبح به ويعيب أن يلتفت في مشيته. وأكد أن العاقل لا يلتفت إلا إذا كان لالتفاته معنى، فتكون هذه الالتفاتة منه في محلها وليست عبثًا، فقد يحتاج المرء أن يلتفت لأمر يسترعي انتباهه ويستدعي التفاته؛ مشيرًا إلى أنه لم يكن عليه الصلاة والسلام مقتصرًا على ترك الالتفات في الطريق الذي يسلكه وحسب؛ بل كان لا يلتفت لما هو أعظم من ذلك؛ إذ كان لا يكترث بمن كان يقف في طريق دعوته، ومن يضع العراقيل أمامه ليصده عن مهمته. وكشف أن من تلك المواقف الجليلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان ثابتًا رابط الجأش لا يلتفت لإساءة السفهاء وأذيتهم، ولا يعبأ بقصدهم وخبث طويتهم؛ ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم (أي الموت)، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: (يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) قلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: (قد قلت: وعليكم). وذكر أن قريشًا لما قامت تسبه عليه الصلاة والسلام، وقامت تلك المرأة تقول: "مُذممًا عصينا ودينه أبينا"، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مُذممًا ويلعنون مذممًا وأنا محمد) متفق عليه؛ فكان يُعرض عن سبهم وقدحهم فيه، بأبي هو وأمي، ولا يلتفت إلى التفاهات والترهات وسفاسف الأمور، ولا ينقطع عن دعوته إلى الله ولا يتوقف. ولفت "غزاوي" إلى أن الجواب لباب الشر مفتاح، والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضًا لصون العرض إصلاح، وعدم مجاراة أهل الجهل والباطل وعدم الالتفات لقولهم هو من مظاهر الحكمة ودلائل العزة؛ حيث أثنى الله على قوم ديدنهم أنهم متى سمعوا كلامًا لا يليق، وُجه إليهم من السفهاء؛ أعرضوا عنه كأنهم لم يسمعوه ولم يشغلوا أنفسهم بالرد عليهم، ولم يخاطبوهم بمقتضى جهلهم الصريح فيقابلوهم بمثله من الكلام القبيح؛ مستشهدًا بقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}. وأكد أن الواجب على المرء ألا يلتفت لما يقوله الناس عنه إذا كان على الجادة، وينبغي ألا يؤثر عليه كلامهم، إذا كان في الإصغاء إليهم ترك ما يجوز أو فعل ما لا يجوز؛ ولذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، فهذا توجيه رباني للتعامل مع ما سيقوله الناس، وعلاج نافع لكلام الناس: كثرة ذكر الله والصلاة، والمضي في العبادة حتى الموت. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: مَن كَثُر إلى غير مطلوبه التفاته؛ عظُمت غفَلاته وضاعت أوقاته ويكفيه خسارةً أن كل التفاتة منه تعطّل سيره وتُضعف إتقانه، فليكن شعاره: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، والعاقل يسير وفق ما اختط لنفسه وحدد من أهداف كريمة ومطالب عالية؛ فيمضي ولا يلتفت إلا لمراجعة عمله وتصحيحه وتحسينه؛ مشيرًا إلى أن الالتفات غير المجدي قد يقطعه عن وُجهته، ويحول دون تحقيق بغيته، ويوقعه في آفة التسويف، ويُقعده عن أداء التكليف. وأضاف: من المهم عند عدم التفاتك لطعن الناس فيك وانتقادهم لك، أن تنظر في الأمر فإن كان ما ذكروه عنك من قدح حقًّا؛ فلتكن إيجابيًّا وتجعل ذلك سببًا في ترقّيك وعنوان تساميك ومراجعة أعمالك واستدراك أخطائك؛ وبهذا تتقدم ويصلح حالك ويحسن مآلك بإذن الله. ولفت إلى أن من نُصحه صلى الله عليه وسلم لأمته أن بيّن لهم كيف يكون الالتفات في بعض الأحوال قادحًا بأن يمنع صاحبه من الخير ويذهب عليه الأجر؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله عز وجل مُقبلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت؛ فإذا صرف وجهه انصرف عنه)، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وأوضح "غزاوي" أن الالتفات في الصلاة يشمل أيضًا التفات القلب؛ وذلك بأن يشتغل الشخص بأمور الدنيا ويشتغل عما هو فيه من الإقبال على الله تعالى بوجهه وبدنه، بألا يلتفت إلى سواه جل وعز، وقال: وكلا الالتفاتيْن (البدني والقلبي) يُنقص الثواب والأجر في الصلاة، وإن كان الْتفات الوجه يحذره كثير من الناس، ويتحاشاه لكن التفات القلب أعظم منه، ولذلك يجوز التفات البصر عند الحاجة، أما قلبه فينبغي أن يكون في كل الأحوال مقبلًا على الرب جل في علاه، فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه. وأردف: لقد أصبحت عادة بعض الناس -مع الأسف- أن يعبث في صلاته فيتلفت ببصره ويكثر الحركة من غير داع ولا يثبت ولا يطمئن، ومنهم من إذا قضى صلاته مع الإمام أدار عنقه ينظر يمينًا وشمالًا وربما خلفه لغير حاجة، وتجده لا ينفك عن هذه العادة، وخاصة بعض كبار السن فينشغل عن التسبيح والأذكار بعد الصلاة ولا يقبل بقلبه عليها فيتدبر معانيها، ويُستثنى من هذه المسألة إذا كان النظر والالتفات في الصلاة لحاجة، ويدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري أنه لما أمّ أبو بكر رضي الله عنه الصحابة في الصلاة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون، صفق الصحابة لينبهوا أبا بكر فلم يلتفت، وكان لا يلتفت في صلاته؛ فلما أكثر الناس من التصفيق التف،ت ثم أوضح لهم صلى الله عليه وسلم أن "من نابَه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإن التصفيق للنساء"، ومعنى أن أبا بكر كان لا يلتفت في صلاته؛ أي أنه كان مقبلًا عليها مشتغلًا بها لا يلتفت عن يمينه ولا عن شماله، كان يفعل ذلك ويداوم عليه حتى وصف به وعرف من حاله. وتابع "غزاوي": إذا ما تساءلنا عن مغزى النهي عن الالتفات في قوله تعالى: {فأسرِ بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك}، فالجواب كما ذكر بعض العلماء: أن هذا توجيه من الله تعالى لنبيه لوط عليه السلام لما أمره أن يسري بأهله؛ فنهاهم من الالتفات لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم، وليبادروا بالخروج من القرية، وأن يكون همهم النجاة أن يصيبهم ما أصاب قوم السوء الفاسقين. وبيّن أن قوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون}، تضمن قاعدة قرآنية عظيمة نفيسة جديرة بالتأمل، نجد ذلك في النهي والأمر (ولا يلتفت) (وامضوا)؛ فهي دعوة لأن يطوي المرء صفحات الماضي المؤلم الذي لا يُذكر: من طي المشاهد وطي الأشخاص وطي اللحظات وطي المراحل، وطي الآلام والمكابدة والأحزان، إن كثرة الالتفات معيقة، وإن إمضاء الخطى على الطي معينة. وأفاد "الغزاوي" بأن النهي عن الالتفات في قوله تعالى {ولا يلتفت منكم أحد} جاء متوافقًا مع قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام عندما جاء مكة والشاهد فيها: ثم قفى إبراهيم منطلقًا بعد أن وضع هاجر وإسماعيل حيث أمره الله، فتبعته أم إسماعيل فقالت: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء"، فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: "آلله الذي أمرك بهذا؟ "، قال: "نعم"، قالت: "إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت، والتوافق في قوله: وجعل لا يلتفت إليها... بل جعل وجهه حيث أُمِر فلم يلتفت عن قصده حسًّا ولا معنى. وأشار إلى أن عدم الالتفات يُعد علاجًا للوساوس الشيطانية لمن ابتُلِيَ بها.. ويجب عدم الالتفات لهذه الخواطر والهواجس، وعدم الاكتراث بها والاسترسال معها؛ بل الكف عن ذلك؛ لأن الإنسان إذا أعطاها اهتمامًا والتفت إليها زادت واستحكمت، وتمكن منه الشيطان. وأكد أمام وخطيب المسجد الحرام أن صاحب المبدأ الثابت على الحق لا يزحزحه عن منهجه شيء فلا يترك رضا الله ليرضي الخلق ويتبع أهواءهم، فهذا نبي الله يوسف عليه السلام ظلت امرأة العزيز تراوده عن نفسه، وتحاول مرارًا إثارة غريزته البشرية لإغوائه، وتبذل كل ما تستطيع في سبيل إغرائه وهو في كل ذلك لا يلتفت إليها، بل يهرب منها وينأى بنفسه عن الوقوع في سخط الله ويُعرض عن الفتنة وما دعته إليه من الرذيلة؛ فتبقى صفحته بيضاء نقيةً ويخلد اسمه في سجل الأبرار الأتقياء الأنقياء الأطهار الورعين المتعففين الأخيار. وقال: ومما يجدر التذكير به أنه متى ما أراد المرء أن ينجز أعماله ويسبق في مضمار الخير فليحذر ما يعطله عن إكمال ما شرع فيه بأن يلتفت إلى تلك الشواغل والصوارف التي قد تؤدي إلى توقفه عما هو فيه كأن يشرع في أداء عمل أو إنجاز مهمة وهو في أثناء ذلك يلتفت إلى هاتفه المحمول يتابعه على كل حال وفي كل حين ويكرر ملاحظته على الدوام ليتبين من اتصل عليه أو أرسل رسالةً إليه، فيقبل على هذا الأمر الشاغل ويترك ما هو فيه من الشغل الحاضر الذي ينبغي أن يقضيه ويتمه ولا ينصرف عنه، وبهذا التشاغل والتلاهي يكون المرء قد ضيع أوقاته وانشغل بهذه المقتنيات وجعلها تتحكم فيه، مع أن المتحتم على المسلم أن يراعي واجب الوقت؛ بحيث يؤدي في كل وقت ما هو مطلوب منه دون أن ينشغل بسواه. وركز على أن من الظواهر الخطيرة التي بُلِيَ بها كثير من المسلمين، وارتكب بسببها العديد من المخالفات والمنهيات، التي تعطل المرء عن العمل الجاد وموافقة الحق؛ ظاهرة الالتفات لما يقول الناس والخوف من كلامهم، وتقليدهم في عاداتهم الباطلة وأهوائهم؛ حتى أصبح بعضهم يخاف من كلام الخلق أكثر مما يخاف من الخالق تعالى، ويتقي كلامهم أكثر مما يتقي النار عياذًا بالله. وقال "غزاوي": إنك عندما تتأمل في حال كثير من الناس ممن تركوا اتباع الهدى وسلكوا سبيل الردى ونظرت في سبب ارتكابهم لكثير من المنهيات الشرعية كالإسراف والتبذير، وعدم تحري الحلال في كسب الأموال ورد الأكفاء من الخاطبين وتأخير الزواج، وغلاء المهور وتعاطي بعض المحرمات من المأكولات والمشروبات وإضاعة الأوقات في اللغو واللهو وارتياد أماكن الفحش والمنكرات والثرثرة في المجالس والمنتديات تجدهم يقعون في هذه الأفعال وغيرها؛ التفاتًا لأقوال الناس وإرضاء لمبتغاهم مع أن الشرع يرفضها ولا يقرها، ولا ينقضي عجبك عندما تراهم لا يكتفون بارتكاب المحظورات بل يذمون من لا يتابعهم عليها ويقلدهم، ويعيبون على من لا يقتدي بهم ويوافقهم، وكأن هذا المخالف لهم ترك شيئًا من أصول الدين أو أهمل واجبًا من واجبات الشرع القويم.