- تبعد المسافة بين سرير مريضة والمقعد سوى خطوات ثلاث. إلا أن الممرضة سحر عبدالله تقدر المسافة بآلاف الكيلومترات. حين وقعت عيناها على ورقة خطتها إحدى المريضات قبل أن تدخل في حال غيبوبة: «أرجوكم صحوني، عندي أطفال اثنين». هذه الورقة «الصدمة» جزء صغير من معاناة العاملين في أكثر أقسام المستشفيات حساسية وألماً: العناية المركزة. تقول الممرضة سحر وفقا لصحيفة الحياة : «كانت المريضة طبيبة تعمل معنا، أصيبت بفشل في التنفس وأدخلت العناية المركزة، وقبل أن تدخل في الغيبوبة كتبت هذه الملاحظة، التي أصابتني بصعقة، لما كانت تحمله من عبارات مؤلمة، وإن اقتصرت على كلمات قليلة. وهذا حمَّل الطاقم الطبي مسؤولية مضاعفة، وظهر التأثر على الجميع لما يشغل تفكير هذه الأم التي ترجو أن تفيق لترى طفليها، وتناست حياتها». ويعيش العاملون في هذا القسم حالاً بين الشد والجذب، بين الحياة والموت، تصاحبهم مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن، وإن كان الأخير الأكثر حضوراً، وتقول سحر: «على رغم الألم النفسي وحتى الجسدي الذي أعانيه يومياً، أعشق عملي الذي يجعلني قريبة جداً من المرضى. وتتشكل بيننا علاقات حميمية، ربما تكون مفقودة في بقية الأقسام. إلا أن القصص الكثيرة التي مرت علينا تجعل منه عملاً مؤلماً». ولم تختلف الممرضة مريم الياسين عن رأي زميلتها، معتبرة العمل داخل العناية المركزة «مغامرة ومجازفة في الوقت نفسه. ويختلف عن العمل في بقية الأقسام، فطبيعة المرضى عندنا تختلف، فغالبيتهم فاقدي الوعي، والأدوية المستخدمة لهم تحتاج إلى دقة ومتابعة بشكل كبير. وهذا متعب عقلياً ونفسياً». وتقول: «كان أول دخول لي لقسم العناية المركزة قبل خمسة أعوام، وانتابني خوف كبير وقلق وطلبت تغيير قسمي. لكن مع الوقت اعتدت الموضوع»، مضيفة: «تعلمت كيف أطلب المساعدة، وبدأت اعتاد رؤية الموت بشكل مستمر». وتوضح زميلتها سحر أن «الرهبة تأخذنا في البداية من الأجهزة الطبية الموصولة بالمريض، خصوصاً إن كان من أبناء جلدتنا، فنحن ممرضات سعوديات، والمرضى من أبناء وطننا، لذا نشعر بمسؤولية أكبر وتغمرنا المشاعر تجاههم وإن كنا نشعر بأن الواجب علينا معالجة الجميع، مواطناً كان أو مقيماً، أسود أو أبيض، مسلماً أو غير مسلم»، مضيفة «من المؤلم جداً لحظة خروجنا لإيصال خبر وفاة أحد المرضى لذويه. هذا موقف لا أدعو أن يوضع أحد فيه فهو شديد الألم. ونحن مجبورون على أخذ كوب قهوة، ثم العودة للعمل الروتيني، ونسيان تلك الحالة»، مضيفة: «في العادة يتولى الطبيب إيصال خبر الوفاة لذوي المريض ونحن نكون برفقته، وفي بعض الحالات نحن نتولى ذلك، إذا كان الطبيب أجنبياً». وألمحت إلى حاجة العاملين في أقسام العناية المركزة إلى برامج للعلاج النفسي، منتقدة غيابها، «فنحن بأمس الحاجة لها، لما نراه من مشاهد مؤلمة يومياً. وأذكر أنني أصبت بانهيار تام حين كنت أجري حديثاً مع إحدى المريضات، وكانت تستعد للخروج من القسم بعد تحسن حالها الصحية، وحين أردت أن أدفع السرير لإيصالها للخارج شعرت بضيق التنفس، وأخبرتني أنها تشعر بإرهاق كبير، وماتت فيما كانت قبل لحظات تتحدث معي بشكل طبيعي وكان مشهداً مؤلماً». فيما تسرد الممرضة مريم قصة شاب في العقد الثالث من عمره، «دخل العناية المركزة بعد أن كان طبيعياً، ولم تظهر عليه علامات المرض لكنه سقط فجأة، ونقل إلى المستشفى وهو يعاني جملة كبيرة من الأمراض. وبقي ملازماً للسرير لمدة طويلة، وفي اليوم الذي قرر الأطباء إزالة التنفس الاصطناعي عنه لتماثله للشفاء، ووسط فرحنا العارم بشفائه لفظ أنفاسه الأخيرة، فأصاب القسم إحباط كبير وحزن لا يمكن تخيله». وأوضحت سحر أن «جل الأزمة أن تعتاد على مريض، وكأنه أصبح فرداً من عائلتك، وفجأة تفقده في لمح البصر. وأذكر أن مريضاً كان ضريراً، لكن لم يمنعه ذلك من أن يكون شعلة من الحيوية والمرح، افتقدناه في يوم وفاته، وأصبح القسم خاوياً». ويتحمل العاملون في القسم سيلاً هائلاً من الأسئلة والاستفسارات، أو التهم بالتقصير والتسبب في موت المريض، كردة فعل «هستيرية» طبيعية بعد تلقي الخبر. وقالت سحر: «أرسلنا حالات عدة إلى الطوارئ، بسبب الدخول في الإغماء بعد تلقي مثل هذه الأنباء، وتعرضنا للضرب والدفع والشتم، لكننا نتحمل كل هذا، لأنها ردة فعل طبيعية وسلوك متوقع من ذوي المتوفى، وهذه محطة من محطات معاناتنا». ولا تنسى الممرضة مريم، أحد أهم المواقف التي مرت عليها أثناء عملها، «كان مرافقاً لمريض كبير في السن، وهو ابنه الشاب، وكان الأب يعامل ابنه بقسوة كبيرة فيضربه ويشتمه، إلا أن الابن لم يكن يفعل شيئاً سوى الابتسامة ورعاية والده، فكان صورة لا تنسى للبر». وتتذكر موقفاً آخر يجسد «الإنسانية الحقيقية» بحسب قولها: «رأيت أماً تقبل أقدام ابنتها المتوفاة دماغياً، وهي لم تتجاوز ال20 ربيعاً، بعد أن دخلت في هذه الحال بعد ولادتها ب40 يوماً. إلا أن مشهد الأم التي تمرر شفتيها على أقدام ابنتها والدموع تغسلهما كان ولا يزال يخترق ذاكرتي». وأوضحت أن من أبرز المعاناة التي تطاردهم بشكل يومي «احتمال إصابتنا بالعدوى، فنحن معرضون لذلك وأكثر. وعلى رغم هذا لا نمنح بدل خطر، بل نستلم مرتبات حالنا حال أي ممرضين آخرين في أي قسم، وهذا أمر يجعلنا نشعر بالخطر الدائم». ولا تقضي مريم وهي أم لطفلين مع عائلتها سوى ساعتين يومياً، بينما تراعي المرضى ل12 ساعة يومياً. وقالت: «هذا أمر يُعد عند الكثيرين انتحاراً، فدوامنا يمتد لنصف يوم، وعائلاتنا لا تحظى إلا بساعتين أو ثلاث كحد أقصى. ونحن مجبورون على النوم مبكراً، لأن عملنا يحتاج كل التركيز والانتباه التام، لذا يجب التقليل من ساعات العمل وتقسيمه، حتى يتسنى لنا مزاولة مهنتنا الخطرة هذه براحة أكبر». من جهتها، تمنع سحر طفلها الوحيد في حال عودتها للبيت من أن يعانقها أو يقترب منها، حتى تقوم بتنظيف نفسها، وتعقيم جسدها «حتى لا يصاب ابني بأية عدوى يمكن أن أنقلها له، من عمل 12 ساعة، فنحن محرومون حتى من أجمل لحظات حياتنا، وهي لهفة أطفالنا حين نعود للمنزل، وهو أمر متعب نفسياً وبشدة». ويصنف الكثيرون العاملين في قسم العناية المركزة ضمن قائمة «المتبلدين شعورياً». ويأتي هذا التصنيف لتعاملهم الدائم مع الموت، فهم ممنوعون في نظر أهالي المرضى من الابتسامة، ومطالبون بالجدية والرسمية، حتى إنهم موصومون ب «قساوة القلب»، لأن الخوف لا يزور قسمهم على الإطلاق، وهو ما ينفيه العاملون في هذا القسم. ولم تنج سحر من تجربة شعور المرضى حين أصيبت بنزيف في الدماغ، وهي على رأس العمل، ووقعت على الأرض داخل أروقة العناية المركزة، «شخصت الأعراض التي أصابتني، فعلمت أنني مصابة بنزيف داخلي في الدماغ، نتيجة انفجار أحد الشرايين، ولحسن حظي أنني كنت في المستشفى وإلا لكنت في عداد الموتى». وبعد عودتها للعمل بعد انقضاء مدة علاجها، والتي تجاوزت ثلاثة أشهر، أصيبت بانعكاس نفسي، «كنت أخاف من كل مريض مصاب بنزيف، لأنني كنت أرى نفسي فيه، لكن مع الوقت استعدت ثقتي ومهارتي. وعلى رغم مرور أربعة أعوام على هذه الحادثة، إلا إنني لا أزال أذكر كل تفاصيلها».