في قسم طب الأطفال.. كانت الغرفة 631 حديث طالبات الطب.. دعتني كل من قابلت للذهاب.. فذهبت.. وكل ما أريد هو أن أطلع على تلك الحالات الأربع التي نزلت الغرفة منذ سنين.. وكم كان المشهد عجيبا.. فعلى السرير الذي واجه الباب مباشرة.. كان يرقد الفتى علي ابن الأحد عشر ربيعا.. التي لم يهنأ بربيع واحد منها.. فهو منذ عرف الدنيا أسير الفراش.. تشده إليه قيود كثيره.. أهمها انبوب التنفس الموصول بقصبته الهائيه مباشرة.. ثم أنبوب الغذاء المتصل بمعدته مباشره..ثم ساقان عجزتا عن حمله ولو لمرة في حياته.. ويدان لم تحسنا عمل شيء قط.. ولسان لم يجرب نطق الكلام.. كانت علامة الحياة الوحيدة لديه هي بريق تلك العينين الجميلتين اللتان تطرفان برقه وتتابعان الذاهب والآتي.. وبجواره كانت ترقد أخته.. ابنة السنوات التسع .. نفس المشهد ونفس الحال.. ثم أخوه الأصغر نفس المشهد ونفس الحال .. والأخ الأخير .. يكرر نفس المأساة.. وبين الأسرّة.. كانت هناك تقف.. كانت هي المعجزة.. استقبلت عيناي المغرورقتان بالدمع بابتسامة ساخرة وابتدرتني بالقول.. : نعم .. أنا أمهم.. ومستعده للإجابة عن اسألتك.. بل من الممكن أن أسمّع لك الأسئلة والإجابات معا.. لو أردت..أنا أجيب نفس الأسئلة منذ سنين.. .. لم أدر بم أجيب.. لم أرد لها أن تشعر بأننا جميعا (كطلاب طب) لا همّ لنا إلا دراسة حالة أبنائها الغريبة .. أردت حقا أن أتعرف عليها.. وأن أعرف كيف استطاعت أن تتحمل هكذا مأساة وهي واقفة مبتسمة.. _ لا لا .. ليس لدي أسئلة إنما أردت أن أطمئن على الأولاد.. الأم : هم كما ترين.. حالهم لم يتغير منذ سنين.. _ وهل لديك أولاد غيرهم؟؟ الأم : لا _أسأل الله أن يرزقك ذرية تكون لك عوضا وعونا.. الأم : لا يا عزيزتي لقد أغلقت الباب.. ففي كل مرة كنت أحلم بطفل طبيعي.. وتأتي النتيجة كما ترين.. في كل حمل لي كان أكبر الأطباء يتابعونني.. ويقسمون بأن الجنين سليم تماما.. ثم يأتون إلى الدنيا هكذا! وفي كل مرة يختلق الأطباء لي سببا.. تعسرت الولاده.. اختنق خلال الولادة.. كان أصغر مما يجب.. كانت أكبر مما يجب.. تعددت الأسباب والموت واحد!! _ وهل .. يبقون في المستشفى طوال الوقت.. الأم : نعم.. حاولنا مرة أنا وزوجي أن نمرضهم جميعا في البيت فكانت تجربة مريرة..تخيلي .. انبوب الأكسجين الكبير هذا.. ينتهي في أقل من نصف يوم.. ويجب أن يبقى الأربعة متصلين على الدوام بأربعة أنابيب للتنفس.. صار زوجي لا هم له غير الركض بأنابيب الأكسجين لملئها كل يوم.. ولكن ذلك لم يثنينا عن عزمنا على ترك المسشفى .. فالحياة هكذا صعبة جدا.. فأنا أتناوب مع الخادمة على الأولاد هنا.. فالممرضات بالمستشفى سئمن من العناية بهم.. وهكذا لم أعد أقابل زوجي إلا أوقات الزيارة.. هنا في المستشفى.. لكن حادثا حدث لابنتي أثناء مقامهم في البيت جعلني أقرر العودة بهم للمستشفى مهما كان الأمر شاقا.. لقد كادت تموت بين يدي.. تغير لون وجهها فجأة وبدت مختنقه.. لم تكن فتحة التنفس (الموصله بالقصبة الهوائيه ) مسدودة.. فقد اعتدت على تنظيفها لهم كل بضعة ساعات لسحب الافرازات.. لكن في تلك المرة أصيبت باختناق بغير أن أعرف السبب وصار صدرها يصدر أصواتا عاليه .. فظننت أنها تنازع وروحها تخرج.. فطرت بها إلى المستشفى.. ومكثت في العناية المركزةأسابيع حتى استقرت حالتها ثانية.. من يومها.. قررت أن لا أتحمل مسؤوليتهم في المنزل وحدي مهما يكن.. فلن أتحمل أن يموت أحدهم بين يدي بغير أن أقدر على عمل شيء له .. تمتمت بصوت منخفض.. انت.. حريصة على حياتهم!! الأم : ماذا أفعل رغم كل شيء هم ابنائي؟؟ في ثوان كانت عيناي تمتلئان دمعا.. لو كنت مكانها.. لدعوت الله كل يوم أن يريحني من هذا العبئ.. عبئ أربعة من المعوقين لا يقدرون على إتمام أبسط مهام الحياة.. ولا أمل لهم في الشفاء.. تخيلت مشهدها وهي تنظف وتغذي تدلك وتمرض أربعة من الأجساد التي لا حراك لها.. أجساد تكبر في حجمها كل يوم ليزداد الحمل ثقلا..دون أن يكبر الأمل بشفائهم ولو قليلا.. ورغم ادراكها التام بأنهم سيبقون ماعاشوا هكذا عبئا عليها..فهي تفزع من فكرة موت أحدهم.. وتركض للمستشفى.. رجاء يوم آخر يحياه.. وسرحت بفكري قليلا.. يالله .. ان كانت هذه رحمة الأم بولدها فكيف رحمة الله بنا؟.. أجل .. نحن سيئون.. تافهون.. مذنبون.. قلوبنا المريضة امتلأت قيحا وصديدا..وتماما كما هو حال هؤلاء الأطفال.. لا نصلح لشيء.. بل إننا عبئ على الأرض.. بالفساد الذي ننشره حيثما حللنا.. ولكن هل يتركنا الرب الرحيم؟؟ ألسنا صنعة يده.. نعم.. نحن نحن مرضى ومذنبون.. ولكن ألسنا خلقه؟؟ وهو يعلم أنه ليس لنا سواه.. وأنه إن تركنا فلن يشفينا سواه.. ولن يعبأ بنا سواه.. أفتراه يتركنا.. وهو الذي قسم الرحمة مائة جزء فأنزل منها جزءا للأرض ليتراحم به العباد فما حنان هذه الأم بأولادها إلا من هذا الجزء من رحمة المولى الذي ترك لنفسه التسعة والتسعين جزءا ليرحم بها عباده!! ألا يزال هناك من يظن أنه أسوء من أن يعود إلى ربه.. أن الله لا يريده وأنه سيغلق بابه في وجهه. حاشاه.. أن يترك صنعة يده.. حاشاه أن يدع مساكين مثلنا أعمتهم الدنيا وأصمّتهم ليلاقوا سوء المصير. * معيدة في قسم الطب النفسي بجامعة الملك عبدالعزيز.