✒اقترب انبلاج الصبح ، وآذنت جحافل الليل بالذهاب .. فقد قارب ثلث الليل الأخير أن ينقضي ، لتحل طلائع الفجر محله معلنة بدء يوم جديد ، قرأت وسمعت أن الظلمة أشدّ ما تكون احتلاكًا قبيل الفجر ، ومثلها الضيق والعسر ، فإنهما أشد ما يكونان إحكامًا واستغلاقًا قبيل الفَرَج ، وما أقرب الفجْر من الفرَج لفظا ومعنى ! وأكثر ما سمعت هذا ، وتأملته ، وأمّلت فيه حين رحل (والدي) ، إذ ظننت خوفي عليه الذي سكن قلبي منذ كنت طفلة سيزول ، وذهبت لأبعد من هذا حين خلت أن حزني على فراقه سيتناقص مع مرور الأيام .. وما كنت أعرف حينها أن هناك ضربًا من الحزن يصادق روحك فلا ينفك عنها ، وأن للفقد قصة أخرى ! ذلك أنك قد تحزن لسماع نبأ ، أو حدث ، أو حكاية ، ولكنك لن تفتقد إلا من يعنيك أمره ، لأن حياتك لن تستقيم إلا به .. وكنت أظن أن الحزن ينضب وأن العين تُقلع عن سكب الدمع ، لكن ما كنت أعرف أن الفقد جبٌّ لا قرار له ، تزيده الأيام عمقًا وظلمة ! عامان ونيّف مرّا على رحيله ، وما زلت أخاف من إستيقاظ نوبات حنيني إليه ولهفي عليه .. أخاف من هدأة السحر خاصة ، لأن له فيها شأنًا مختلفا ..فما عرفت غيره يجفو مضجعه ويقبل على مصحفه ومحرابه سواه .. فمن أين لي بكلمات أصف بها الأمان والراحة والسكينة والسعادة التي كان يبعثها وجوده ؟! وهل تساعفني العبارات لأبيّن أي أنس وطمأنينة كنت أجدها حين يهجرني النوم أو حين أستيقظ لأجده قائمًا يصلي ، ويتمتم بدعوات لي ولأخوتي ؟! أنا لم أفقد أبا يعولني ، أو يحميني ، أو يرعاني .. لقد فقدت سندي وحبيبي .. فقدت رجلًا ما عرفت الحياة مذ ولدت دونه ، فقدت الأمان ، ودعة الطفولة .. فقدت أعظم رجل رأيته .. لطالما احتملني واحتمل جهلي وتقصيري ، وسامحني وعفا عني ، وتجاوز بحلمه عما لا ينبغي في حقه ، بروح طيبة ، وقلب صاف ، وعطاء غير مقطوع ! كل صفحات ماضيَّ الجميلة فيها بصمات أبي ، وإشراقات أبي ، ناقصة حياتي دونه ، بل ناقصة أنا بعده .. أسير خلف ركائب من حولي ، ولا أعرف طريقي ولا وجهتي ! كان مع سعة علمه ، وجودة عمله ، وحسن إدارته ، وطيب نفسه يعدّ نفسه للآخرة ، ولا أظنه طرقا حديثا كحديثه عن الجنة ! وما يقرب إليها ، ويدني منها لكنه ما حدثني ولا علّمني ولا خبرني كيف أسلك الطريق وحدي بعد رحيله !! كنت أقطع كل حديث يمهد فيه ليوم فقده ، بل أذكر مرة أنني بكيت ورجوته ألا يكمل ، فابتسم وأمسك ! أنا اليوم يا أبي أعيش ذلك الحديث الذي أشفقت عليّ من سماعه واقعًا !! فمن لدمعي بعدك ؟ ، ومن لحزني بعد رحيلك ؟ ، ومتى تأتي الليلةالتي أذكرك فيها ولا أبكي وحدي ؟ ، ومتى أعتادغيابك فلا يكسرني ولا يبكيني ؟ تفاصيلك محفورة في قلبي .. فكيف أعتق من رِقّ وأسر الشوق إليك ؟؟ لابتسامتك ، لصوتك ، لملمس يدك ، لرائحتك .. لمناداتك ، للحديث إليك ، للتدلل عليك ؟ صدع قلبي فراقك يا أحب الناس لقلبي .. وصارت روحي بعدك تعيش يتمًا قاسيًا .. إنني حينما أبكيه .. فإنني أبكي رجلا افتقده لما رحل الطير والشجر ، فضلا عن المساكين وأصحاب الحاجات الذين طالما واساهم بماله وحسن خلقه ؛ أبكي رجلا ما ذُكر إلا وأُثنى عليه ؛ فما ترك كنزًا أعظم من سيرة طيبة تنقضي الأيام وفضلها لا ينقضي ؛ أبكي رجلا لو لم يكن أبي لتمنيت أبوته .. رحمك الله يا أبي وحبيبي وشيخي ومعلمي وسندي وركني وشمسي ، ونعّم روحك الطيبة في جنان الفردوس الأعلى ، وجمعني بك في مستقر رحمته. *دعاء: ربِّ ارحم ضعفي وانكساري بعده ، واجبر قلبي ، وسخّرني وألهمني ودلني لأكون امتدادًا لعمله الصالح حتى تلحقني به.