كلمّا زرتُ مدينةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحت لي صورٌ من المواقف الكثيرة التي وقعت على ذلك الثرى الطاهر.. سواء على مستوى شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم، أم على مستوى بيته وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، أم مع بقية الركب الميمون من أصحابه العرانين الكرام([1])، رضوان الله عليهم أجمعين. يجلسُ أحدنا في المسجد النبوي فتتداعى أمامه الآيات المدنية التي نزلت سواءٌ ههنا في هذا المسجد الشريف، أم في تلك الحجرات التي كانت تضم أطهر النساء، اللاتي امتنّ الله عليهن بقوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾[الأحزاب: 34]. تلك الحجرات بسيطة البناء .. صغيرة المساحة .. حجرات حين دخلها مَلِكٌ من ملوك العرب -وهو عدي بن حاتم- وقلّب بصرَه فيها، فلم ير فيها أكثرَ من فراش يضم زوجين وعلى وسادة صغيرة! ومشجباً تُعَلّقُ عليه الثياب.. فلم يجد بُداً حين خرج أن قال: ليست هذه بيوت الملوك.. إنها بيوت الأنبياء! فأسلم. هذه الحجرات ببساطتها وعظمتها في الوقت ذاته؛ لم تَفُتْ شاعرَ الإسلام حسانَ -وهو يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا ** مِنْ اللَّهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ ومن تلك الحجرات: حجرةُ الطاهرة المطهّرة عائشة رضي الله عنها، التي ضمّت الجسدَ الطاهر له صلى الله عليه وسلم، ثم قبْرَي صاحبيه رضي الله عنهما. يمرُّ بها المؤمنُ وتتبادرُ لذهنه فواتحُ سورة النور، التي نزل جزءٌ منها مبرئاً صاحبةَ تلك الحجرة، بأعظم براءةٍ تسمعُ بها أُذُن. وحينما يزور المحبُّ لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قبرَه الشريف، وقبرَيْ صاحبيه، وَزِيْرَيْ الصِدْقِ: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فإنه يغبطهما على تلك الكرامة العظيمة التي أكرمهما اللهُ بها دون غيرهما من الصحْب الكرام، إذْ لا يزور أَحَدٌ قبرَه صلى الله عليه وسلم ويسلِّم عليه إلا وسلّم عليهما ودعا لهما. وإن الذي اختار لنبيه أحسنَ الصحاب في الحياة الدنيوية؛ لم يختر له إلا أحسن الجوار في الحياة البرزخية. وحين يوفّق الإنسان لقراءة السور المدنية في المسجد الشريف، كسورةِ "المنافقون"، أو مطلع سورة "البقرة" أو "التوبة" أو "الفتح" أو "الحشر"؛ فإنه سيجد لها وقْعاً آخر.. حيث تمرُّ أمام ناظريه تلك الفلول المخذولة من أئمة المنافقين في هذه الأمة: ابن أُبيّ وأصحابه! ويتساءل: أين هُم الآن؟ أين ذهبت مؤامراتهم؟ أين انتهت مكائدُهم؟ لقد خلّد القرآنُ ذِكرهم بأسوأ الذِّكر! وآلَ أمرُهم إلى شر مصيرٍ ينتظره ميِّت! وبقي دينُ الله -رغم مكائدهم ومؤامراتهم مع أعداء الملة- عزيزاً شامخاً، وسيبقى كذلك حتى يأتي أمر الله. مَن الذي يزورُ جبل أُحُدٍ ولا يتذكر عشرات الآيات التي نزلت في سورة آل عمران؟ ما بين تذكيرٍ بمنة الله على الصحابة -رضوان الله عليهم- ببعثته صلى الله عليه وسلم، وعتابٍ على ما وقع مِن نزول الرُّماة، وحديثٍ عن منازل الشهداء عند ربهم. ومَن الذي يزور المدينة في وقت الشتاء، وفي ليلة شهباء([2])، ولا يتذكر مطلع سورة الأحزاب؟ التي مايز الله فيها بين قلوب المؤمنين الذين ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾، والمنافقين الكاذبين الذين قالوا: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾! ولم ينفعهم تحزّبهم مع أعداء الله من الوثنيين واليهود. وإذا ذُكِر المنافقون ذُكِر إخوانهم من أهل الكتاب -واليهود تحديداً- والذين أبدى القرآن في ذِكرهم وأعاد، فبقيت آياتُ الله ناطقةً بفجورهم، ونقضِهم للعهود، وخياناتهم المتكررة، بقيت هذه الآيات تتجلى لأهل القرآن عبر القرون، لا يطمسها مؤتَمر، ولا يمحوها بيان، ولا تتيه في خريطة طريقٍ يرسمها المجرمون المتغلبون! ويبقى ل"طَيبة الطيِّبة" و"طابة"([3])، والمسجدِ النبويِّ مكانتهما العظيمة في نفس كل مسلمٍ أكرمه اللهُ باتباع هذا النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، فإذا أتى تلك البقاعَ الطاهرة، التي يتضوّع منها أرَجُ الوحي الإلهي([4])، فليُمعن النظرَ وليُطِل التوقُّفَ، وليُحرِّك الذهنَ، وليَشحذ الذاكرةَ لتُعيدَه أربعةَ عشر قرْناً للوراء؛ فيتذكر كم بذل صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الغالي والنفيس ليصل إلينا هذا الدين كما أراده الله. إن زيارة المدينة أو مكّة ليست مجرد سياحةٍ عابرةٍ يُجَدّدُ فيها نشاط البدن دون نشاط القلب، والموفَّق من رُزِقَ الأمرين معاً.