انقسم المصريون حول شخصية أردوغان ، بين مؤيد ومناوئ ... وتبادل البعض مواقعه من مؤيد لمعارض أو من معارض لمؤيد ، وذلك دون تقييم موضوعى لأداء وأقوال الرجل ، وإنما تبعاً لتمنيات وأهواء الأشخاص وتفسيراتهم الخاصة. فمن كان يرى فى أردوغان \"الزعيم المسلم المنتظر\" الذى سيخرص كافة الألسنة التى تنادى بالعالمانية لكونه رجل مسلم ينتمى لحزب مرجعيته دينية قاد بلاد العالمانية التركية إلى الرواج الاقتصادى وتحدى اسرائيل واستطاع الوقوف فى وجه غطرستها ومرط أنفها بالتراب وطرد سفيرها ، كان ينتظر قدومه بفارغ الصبر ليحارب له قضيته الداخلية (مع العالمانيين) بدلاً عنه ، فإذا به ينادى بتطبيق الدولة العالمانية وأنه لا تعارض بين العالمانية والدين وإنما هى تعنى أن الدولة العالمانية (حسب قوله) هى تلك التى عند حاكمها يقف المسلم والمسيحى واليهودى والملحد على درجة واحدة ، وهذا القول أسعد العالمانيين كثيراً باعتباره انتصاراً لما يلبسون به على عامة المصريين البسطاء ، ولكن لنتناول الأمر بموضوعية دون تشنج أو تعصب ولنتعلم أن يسع بعضنا بعضاً فيما نتفق فيه أو نختلف عليه.... ولنتسائل ... ما سر نجاحات هذا الرجل وسر قوته؟ أليس إخلاصه لبلده واحترامه لصوت الناخب الذى أعطاه إياه ، فهو فى كل تصرف يضع أمام ناظريه مصلحة بلده أولا وأمانة صوت الناخب ثانياً ، وعليه الالتزام بدستور بلده الذى تم انتخابه فى ظله وأوصله لسدة الحكم هناك. فهل يمكن لنا أن نطالبه بأن يجاملنا ويخون الدستور والقانون الذى انتخب فى ظله وأقسم على الولاء له والمحافظة عليه؟ فلقد انتخب فى ظل دستور يؤمن بعالمانية الدولة ولهذا فهو لا يستطيع أن يقول أو يصرح بما يخالف ذلك أو يفقد فيه أمانة ناخبيه... وفى ذات الوقت هو لم يتناول إسرائيل من منظور دينى وإنما من منظور مصالح دولية وهو فى سعيه اليوم إلى العالم العربى إنما يلوح بتلك الورقة للاتحاد الأوربى الذى يعزف عن قبوله عضوا لديه... إلى هنا أنتهى من تقييم أقوال وأفعال الرجل... ولكن لم أنته بعد من الطرح العملى الواجب حتى نستطيع أن نواجه ما يقابلنا من تحديات وما أكثرها... فإذا كان أردوغان يدافع عن العالمانية وفقاً للأسباب التى أسلفناها فينبغى أن يعلم القاصى والدانى أن تلك العالمانية هى التى تسببت فى سجنه أربعة أشهر عندما مسها من قبل ، وحتى نكون على بصيرة مما يحاك لنا علينا أن نعرف متى وكيف بدأت العالمانية بتركيا وما تطوراتها وما اتخذته من مواقف وأصدرته من قوانين حتى يعلم الجميع أن ما يتم الترويج له الآن (رغم بريقه فى بعض الأحيان) إلا أن مكنونه أمر آخر ، فما هو سبب تحول تركيا لدولة عالمانية؟ كان ذلك تنفيذاً لشرط \"كرزون\" رئيس الوفد الإنجليزى فى مؤتمر لوزان لتوقيع الدول الغربية على إعادة ترسيم حدود الدولة التركية والاعتراف بها (وهو أن تتحول إلى دولة مدنية) فى عام 1923 ، وبعد أقل من ثلاث سنوات من قيام الدولة المدنية التى (لا تحارب الدين ولا تعارضه) تم اعتماد القانون السويسرى كأساس لقانون الأحوال الشخصية فى تركيا ، وفى عام عام 1937 صدر الدستور الذى يعلن عالمانية الدولة التركية ، ولنلق نظرة عابرة على ما نص عليه فى مادته الثانية \"البديلة للمادة التى كانت تقر بأن الدين الرسمى للدولة هو الإسلام\" فقد نص على أنها دولة ديمقراطية ، عالمانية ، تضع فى اعتبارها مفاهيم السلم العام ، والوحدة الوطنية ، والعدالة ، وحقوق الإنسان. أعتقد أننا سمعنا بعبارات مشابهة كثيراً فى الفترات السابقة... ولنرقب كيف أنه لا تعارض بين العالمانية والإسلام ، فالدستور الذى أوجب على نفسه صون الدين وحماية حرية ممارسة العقيدة ، قد استهلت الدولة العالمانية فى تركيا فى ظله (1924) بقانون توحيد التعليم وإغلاق المدارس الدينية ، ثم ألغت الأوقاف الشرعية ، فلم تكتف بل تطرقت إلى حرية الملبس وتغيير الهوية وصدر قانون حظر لبس الطربوش (لا تحارب الدين ولا تعارضه) ، قانون لحظر لبس الطربوش ... سبحان الله ... بل صدر (1926) قانون القيافة الذى يفرض ارتداء الملابس الغربية. (قمة الحرية) ، وبدلاً من كتابة الألفاظ التركية بحروف عربية استبدلها بحروف لاتينية ، (لقطع كل صلة بالهوية العربية) ، وفى (1932) تم رفع الآذان باللغة التركية بدلاً من العربية ، وبعد عامين صدر قانون يعاقب بالسجن من يرفع الآذان باللغة العربية (لا تحارب الدين ولا تعارضه) ، ولكن هل اكتفت العالمانية؟ لا وإنما تم كتابة القرآن الكريم باللغة التركية وحظرت الصلاة بالقرآن باللغة العربية ... حقاً (لا تحارب الدين ولا تعارضه) ، وفى العام التالى تم تعديل العطلة الأسبوعية من الجمعة إلى الأحد ولا يجوز ترك العمل للصلاة ... فعلاً العالمانية (لا تحارب الدين ولا تعارضه) ، ثم تحولت المساجد التركية إلى واحدة من الآتى (الإغلاق أو مراكز الأحزاب أو ثكنات عسكرية أو محلات وبنوك) ، بل إن بعضها تحول إلى محال لبيع الخمور (لا تحارب الدين ولا تعارضه) ، وماذا عن أحكام الزواج؟ ألم نسمع - فى أحد البرامج التلفزيونية المصرية فى الآونة الأخيرة- أحدهم وهو ينادى بالزواج المدنى ويبشر به؟ لقد تم تطبيق الزواج المدنى فى تركيا وتم إلغاء المهر بل وإلغاء شرط الإسلام فى الزوج الذى يتزوج من مسلمة ، وبالتالى صار لغير المسلمين حق الزواج من المرأة المسلمة ، قطعاً (لا تحارب الدين ولا تعارضه) وتبعاً لذلك سقط الحق فى الزواج بأكثر من واحدة ، بل سقط حق الزوج فى إيقاع الطلاق بإرادته ، بل صارت ملكية أحد الزوجين لشئ ما أثناء الزواج ملكية مشتركة يتقاسماها عند الطلاق أياً كانت حقيقة تلك الملكية أو مصدرها ، بل لقد ساوى بين الذكر والأنثى عند تقسيم التركات .... هل تأكدتم (لا تحارب الدين ولا تعارضه). فهل بعد التجربة التركية مع العالمانية ، لازال عند البعض ثقة فى أنه لا تعارض بينها وبين المفاهيم الإسلامية؟ إذا كان ذلك مقبولاً فى العالم الغربى ، فهو غير مقبول فى مجتمعاتنا الإسلامية. فكل ما سقناه من أمثلة سابقة انتهاك للدين وليس مجرد تعارض معه. ولأهل الدنيا والمفاهيم المادية نطالبهم بمقارنة تركيا العالمانية قبل حزب العدالة الإسلامى وبعده سنجد الفارق بينهما هو الفارق بين دولة عالمانية ودولة إسلامية أو تكاد تكون.