الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد : لقد أصبح الابتكار الاجتماعي وهو ما يعرف لدينا بالعمل التطوعي المجتمعي ركيزة أساسية في بناء المجتمع ونشر التماسك الاجتماعي بين المواطنين،وهو ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجتمعات البشرية منذ قديم الأزمنة، ولكنه يختلف في حجمه وشكله واتجاهاته ودوافعه من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى،ولا شك أن هناك أفراد في أي مجتمع لديهم القدرة على إحداث تغيير في حياة الكثير من الناس من خلال العمل التطوعي، هذا التغيير يهدف إلى ضمان الرعاية للمحتاجين،وهذه الرعاية تأخذ أشكال مختلفة من قبيل ضمان المأكل والمشرب والملبس،ضمان المسكن الملائم ،ضمان الحصول على الحقوق الأساسية والعيش بكرامة ....الخ، ولا خلاف في أن هدف التطوع المجتمعي هو تخفيف المعاناة عن الناس سواء كانوا فقراء ومعوزين أو أيتاماً أو أرامل أو كبار سن أو من ذوي الاحتياجات الخاصة أو غيرهم . وفي العالم الغربي نجد أن هناك اهتمام كبير بالعمل الخيري الاجتماعي،حيث أن عدد المنظمات غير الربحية في الولاياتالمتحدة يصل إلى 1.5 مليون منظمة، ثلثاها منظمات خيرية، و48% منها قائمة على أساس ديني[1]، وأنا أتساءل هنا إذا كان هذا العدد في الولاياتالمتحدة فقط فكم سيكون عددها في الدول الغربية الأخرى ؟ وكم عدد المتطوعين للعمل في هذه الجمعيات ؟ ولكنني أحزن بالفعل إذا تذكرت وضع العمل التطوعي في عالمنا العربي أو في المملكة العربية السعودية كأقرب مثال . إن العمل التطوعي للمجتمع موجود في الإسلام ويحث عليه بل ويشجعه، قال تعالى:{ومن تطوع خيراً فهو خير له } [البقرة:158]، وقال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس أنفعهم للناس " [رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني ] وقال صلى الله عليه وسلم " " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة،ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة،... "[رواه مسلم] . وغيرها العديد من الآيات والأحاديث الشريفة التي تحث على خدمة الآخرين وتيسير حاجاتهم،ومعنى ذلك أن ثقافة التطوع في مجتمعاتنا ترتكز نظرياً علي نواة صلبة من عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر وهي التي دفعت المجتمع الإسلامي على مر الزمن أفراداً وجماعات إلى المبادرة بفعل الخير،والسعي طواعية لتقديم العون للآخرين ابتغاء وجه الله تعالى،ولكننا نجد أن الكثير من الناس في مجتمعنا لا يستشعر هذه الآيات والأحاديث ولا يتوقف عند تدبر معانيها،ولذلك فقضية أن ينخرط الإنسان بعمل خيري تطوعي في مجتمعنا تعتبر من الأمور التي لا تجد صدىً كبيراً وخاصة عند فئة الشباب،والتي قل أو ندر من تجده يَنْذُرُ نفسه للعمل بها .كما أننا لا نبذل مجهوداً كبيراً لحث الشباب وغيرهم من فئات المجتمع على الانخراط في الجمعيات الخيرية التطوعية المختلفة،وعلى العكس من ذلك نجد أن الغربيين تحاصرهم الدعوات للانخراط في العمل التطوعي في الجرائد التي يقرؤونها والراديو والتلفزيون وفي المنظمات التطوعية المترامية الأطراف بل وفي كل مكان يرتادونه، فالمسألة مسألة ثقافة وتربية منذ الصغر، يتم غرسها في وجدان فئات المجتمع، وعلى رأسها يقف كبار رجالات المجتمع سواء في التربية أو الرياضة أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها . إن الإنسان منا إذا رأى البنات اليافعات صغيرات السن في الدول الغربية يسكنّ في أصقاع أفريقيا الفقيرة ويعملن تطوعاً لخدمة الكنيسة، ليحس في نفسه الحرقة والألم، ألسنا نحن أولى بهذه الأعمال التطوعية ونحن على الملة الصحيحة ؟ السنا نحن على الحق وأولى بنشر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وفي خدمة المسلمين ؟ ولكن للأسف كثير من الناس اليوم لا يحدث نفسه بالقيام بمثل هذه الأعمال، كما يستبعد في قرارة نفسه أن يكون عاملاً لمجتمعه يفيده بما يستطيع القيام به . ويمكن تعريف العمل التطوعي:بأنه عمل غير ربحي،لا يقدم نظير أجر معلوم،وهو عمل غير وظيفي يقوم به الأفراد من أجل مساعدة وتنمية مستوى معيشة الآخرين،وهناك الكثير من الأشكال والممارسات التي ينضوي تحتها العمل التطوعي، من مشاركات تقليدية ذات منفعة متبادلة، إلى مساعدة الآخرين في أوقات الشدة وعند وقوع الكوارث الطبيعية والاجتماعية دون أن يطلب ذلك وإنما يمارس كرد فعل طبيعي دون توقع نظير مادي لذلك العمل،بل النظير هو سعادة ورضا عند رفع المعاناة عن كاهل المصابين ولم شمل المنكوبين ودرء الجوع والأمراض عن الفقراء والمحتاجين[2] . ويعرّف التطوع بأنه ما تبرع به الإنسان من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه،وقد جاء في لسان العرب لابن منظور أمثلة:جاء طائعاً غير مكره، ولتفعلنّه طوعاً أو كرها، وهناك فائدة نفسية كبيرة للمتطوع،فقد وجد العلماء أن من يقوم بالأعمال التطوعية أشخاص نذروا أنفسهم لمساعدة الآخرين بطبعهم واختيارهم بهدف خدمة المجتمع الذي يعيشون فيه، ولذلك يكون التطوع كعمل خيري وسيلة لراحة النفس والشعور بالاعتزاز والثقة بالنفس عند من يتطوع؛ لأنه فعالية تقوي عند الأفراد الرغبة بالحياة والثقة بالمستقبل . إنه يمكن استخدام العمل التطوعي لمعالجة الأفراد المصابين بالاكتئاب والضيق النفسي والملل؛ لأن التطوع في أعمال خيرية للمجتمع يساعد هؤلاء المرضى في تجاوز محنتهم الشخصية والتسامي نحو خير يمس محيط الشخص وعلاقاته، ليشعروا بأهميتهم ودورهم في تقدم المجتمع الذي يعيشون فيه؛ مما يعطيهم الأمل بحياة جديدة أسعد حالاً [3] . ويتحقق مفهوم العمل التطوعي بمعناه الحقيقي في المجتمع بأن نعمل فيه يداً واحدة لمساعدة بعضنا البعض، وبأن يقوم كل إنسان حسب قدراته بما يستطيع أن يخدم به مجتمعه وناسه وأهله، ويكون بنشر ثقافة " خدمة الآخر " أياً كان بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية والعائلة والمنصب واللون والقبيلة ...، وبأن يؤازر ويشجع بعضنا البعض على المضي قدماً في هذه الأعمال،ويكون أيضاً بافتتاح العديد من الجمعيات الخيرية التي تقدم الأعمال التطوعية للناس والتواصل مع رجال الأعمال والموسرين لجمع الأموال الكافية لاستمرار نشاطها وقيامها بأعمالها على أكمل وجه ، وهناك العديد من الوسائل لتحفيز وتنمية الانتماء للعمل التطوعي منها ما يلي[4] : 1- قيام المتطوع بأعمال تتفق وإمكاناته وقدراته . 2- تعريف المتطوع بالفوائد التي سيحققها من عمله التطوعي(أجر ومثوبة،راحة نفسية،استثمار مواهبه ، القدرة على التعامل مع الآخرين،استمتاع،توسيع مدارك،صداقات جديدة,...). 3- مراعاة رغبات المتطوع وظروفه الخاصة في تحديد وقت وزمن التطوع . 4- تكليف المتطوع بالأعمال التي تتلاءم مع المفاهيم الثقافية والاجتماعية السائدة في بيئته . 5- وضوح الواجبات والمسئوليات المطلوبة من المتطوع . 6- صرف مكافآت مالية كحوافز للمتطوعين(العاطلين عن العمل،محدودي الدخل) خاصة وأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية تحول دون انخراط الشباب في الأعمال التطوعية . 7- إيجاد حوافز وظيفية للمتطوعين من موظفي الدولة( تعويض الإجازة ، العلاوة السنوية ، الترقية). 8- تنظيم التشريعات القانونية لجعل العمل التطوعي جزء من وسائل تخفيف الأحكام القضائية . ويتبادر إلى ذهني سؤال مهم وهو لماذا هذا التدني في فاعلية التطوع وفي جدواه الاجتماعية لدينا مع وجود الجمعيات الخيرية في كل بلد ؟ لا شك أن هناك أسباباً كثيرة يمكن ردها إلى أن " الثقافة السائدة " في مجتمعنا لا تدعم العمل التطوعي إلا ما قل، مع أن هناك فئات من المجتمع نذرت نفسها للعمل التطوعي الاجتماعي ، ولكنها للأسف قليلة جداً مقابل ما يحتاجه المجتمع . إننا نحتاج إلى أن نلتفت إلى الغرب قليلاً في هذا المجال مع أنهم ليسوا على حق ، ونستفيد من تجاربهم،ولكي أدلل على ذلك سأسرد بشكل سريع هذه المعلومات عن التطوع في بعض الدول[5]: - في العام 2001م فقط انخرط حوالي 18.8 مليون إنسان في مساهمات لأنشطة اجتماعية في أنحاء بريطانيا، وفي عام 2003م بلغ العدد( 20.3 ) مليون متطوع، شارك منهم ( 11.1 ) مليون في تطوع رسمي على الأقل مرة واحدة في الشهر (استبيان لوزارة الداخلية البريطانية) . - قدرت القيمة الكلية للوقت الذي تم التطوع به في أمريكا خلال العام 2003م حوالي(266) بليون دولار . (قطاع المنظمات غير الحكومية المستقل بأمريكا). - الوقت المخصص للتطوع للمشاريع الخيرية في أمريكا يصل إلى( 135) ألف ساعة من وقت العمل الكامل كل سنة. (مؤشر القطاع المستقل في أمريكا) . إن تعزيز الجانب التطوعي في نفوسنا يحتاج وقفة صادقة ومحاسبة للنفس ! ماذا استفادت من مجتمعها؟ وماذا يمكن أن تكافئ هذا المجتمع وتقدم له نظير ما قدم لها هذا المجتمع ؟ فلابد أن نقف جميعاً ونساهم في بث ثقافة التطوع بين جميع أفراد المجتمع ، ولابد أن تعزز ثقافة " خدمة الآخر" بدون مقابل بيننا، لاشك أننا قادرون بإمكانياتنا الكبيرة وفي ظل الثورة التكنولوجية الهائلة أن نقدم الكثير، فالطاقات موجودة ولكن أين الدافع لتسير هذه الطاقات في الاتجاه الصحيح نحو خدمة المجتمع، ومن الأمور التي يجب الانتباه لها استغلال إمكانات شبكة الإنترنت الهائلة في خدمة العمل التطوعي سواء عن طريق رسائل البريد الإلكتروني أو عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك وغيرها . ولابد أن نهتم كذلك بتعزيز ثقافة العمل التطوعي الاجتماعي في نفوس صغارنا ذكوراً وإناثاً، وأن يتم دمج هذه الثقافة في مناهج التعليم بشكل كبير،حتى ينشأ الطفل باراً بمجتمعه الذي تربى على يديه ، ولا مانع من أن يتم الاستعانة بتجارب الدول الأخرى الكثيرة التي سبقتنا في هذا المجال ، وكل منا له مسؤوليات في هذا الجانب وليس هناك أحد معذور، فالأب في منزله مطلوب منه أن ينمي هذا العمل في نفوس أبناءه وأن يحفزهم على العمل التطوعي للمجتمع الذي يعيشون فيه،وأن يخصص جزءً من ميزانياته لهذا العمل،فهو القدوة لأبنائه, وإن الله يحب من العمل أدومه وإن وقل ، ويقول صلى الله عليه وسلم " لا تحقرن من المعروف شيئاً ... "[رواه مسلم] ، والمعلم في صفه مطلوب منه كذلك أن يغرس في نفوس طلابه خدمة مجتمعهم والعمل من أجل خدمة أفراده ، وهكذا فمتى ما أصبح هذا العمل هاجساً لدينا فسوف تتغير أشياء كثيرة في هذا المجتمع . والتجار وأصحاب رؤوس الأموال عليهم أيضاً مسؤوليات كبيرة , فإذا عرفنا أنه في الولاياتالمتحدة وحدها صُرف على التطوع الاجتماعي (226 مليار دولار) فإننا نسأل الآن ما لذي يصرفه التجار لدينا على الأعمال التطوعية ؟ ولو استعرضنا الميزانيات السنوية التي تصدرها الجمعيات الخيرية فإننا سنصاب حقيقة بالدهشة من قلة أو شح مساهمة التجار في العمل الخيري والتطوعي . وأخيراً هذه بعض النقاط المهمة التي تساعد على تهيئة الأفراد للانخراط في العمل التطوعي[4]: 1- نشر ثقافة التطوع وتعزيزها في المجتمع من خلال الأنشطة التثقيفية والتوعوية والإعلامية . 2- تنشئة الأبناء تنشئةً اجتماعية سليمةً من خلال قيام وسائط التنشئة المختلفة( الأسرة ، المدرسة ، الإعلام ) بدور مُنسّق ومتكامل الجوانب في غرس قيم التضحية والإيثار وروح العمل الجماعي في نفوس الناشئة منذ مراحل الطفولة المبكرة . 3- تأصيل مفهوم العمل التطوعي بإدراجه ضمن مناهج التعليم. 4- تخصيص ساعات من أوقات الطلبة في مراحل التعليم العام والجامعي للمشاركة في العمل التطوعي . 5- إخضاع المتطوعين لدورات تدريبية في المجالات التطوعية التي يكلفون بها . 6- إبراز دور القدوات الاجتماعية المساهمة في الأعمال التطوعية . د/ إبراهيم بن عبدالله البلطان