مدخل : هذه الكتابة مرّ عليها قرابة عشر سنوات ، وكنتُ قد سلمتها لبعض الجهات المعنية ، وكتبتُ على غلافها "سري للغاية ولأصحاب القرار فقط" ! ولكن بعد مضي سنين عددًا تغيّرت مفاهيم كثيرة ، والموضوع الذي كان يُناقش في الغرف المغلقة ، أصبح يُعرض على العالم أجمع ، بعد أن تحولت تلك الغرف إلى (استديوهات) فضائية ، ولأجل تعميم الفائدة ، خاصة أننا على أبواب انطلاق رحلات كثيرة للدعوة والمساعدة في رحاب العالم الواسعة مع بداية الصيف والإجازة ، كما هي العادة في كل سنة ، رأيتُ أن أنشر هذه الكتابة الحبيسة التي أشك أن تلك الجهات المسؤولة قرأتها فضلاً أن تكون طبقت شيئًا مما فيها ! ورُبّ مبلّغ أوعى من سامع . وقد حذفت بعض الأشياء التي لا تصلح للنشر ، خاصة أسماء الدول والأشخاص والجماعات والجهات ونحوها ، وأن أبقيتُ الأمثلة لإثبات وجهة النظر . ولابد من مراعاة أن ما ورد من معلومات وأرقام ومبالغ مالية ونحوها إنما كان بحسابات وقتها عند كتابة هذا التقرير ، فإذا تبدل شيء فلكل زمان أحواله وظروفه . وعندي كتابة أخرى وأخرى بعد نشر هذه . سوانح في الأعمال الخيرية الموجهة للخارج الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وبعد : فهذه مراجعات مختصرة وبرقيات عاجلة ورؤية سريعة وأفكار بنّاءة إن شاء الله حول النشاطات الدَّعوية والمشاريع الإنشائية التي تُقام خارج المملكة ، كتبتها وأنا عائد بالطائرة إلى الوطن في آخر صيف عام 1423 ه ، تداركتُ ما لم يطر من الخواطر وطارت أُخرى يأتي بها الله بحوله وقوته ومشيئته ، وقد رأيتُ أن تكون هذه الملاحظات صريحة وواضحة ومباشرة من دون مُقدمات ولا تمهيدات ولا بحث عن مبررات ؛ لأن القصد هو الإصلاح والعلاج ، وقد مللنا المجاملات والتلميحات ، لكن أملي أن تبقى قيد الكتمان حتى لا يؤاخذنا من قد لا يفهم قصدنا أو لا يُريد أن يعترف بما هو واقع وكائن . وأُنبه إلى أني تجنبتُ ذكر كثير من الشواهد والوقائع من باب "حدثوا النّاس بما يعرفون" و "ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" ، فلو ذكرتُ كل ما اطلعتُ عليه فقد يُظن أني بالغتُ أو تحاملتُ ، ويعلم الله ويشهد أني إنما ذهبتُ لتلك البلاد برغبتي واختياري على الرغم من وجود بدائل أخرى في أوربا وأمريكا وآسيا ؛ لإدراكي أن البلاد الأفريقية هي أحوج من غيرها ، ولقلة الذاهبين إليها من بلادنا لأسباب لا تخفى ، فأسأل الله الكريم أن ينفع بهذه الملاحظات والمقترحات وأن تكون خالصة لوجهه وأن يجنبنا الخطأ والزلل والنسيان . فأقول والله المستعان وعليه التكلان : (1) يلاحظ الثقة المفرطة بالذين يُقدِّمون طلبات إعانة أو دعم للمشاريع الخيرية أو الدَّعوية أو العلمية أو الإغاثية ونحوها ، فتُعطى لهم الأموال الضخمة نقدًا وبدون مراقبة دقيقة أو متابعة لصيقة ، وقبلها من دون فحص لمصداقية هذه المشاريع والأعمال المزعومة ، ومدى حاجة الناس إليها في البلد المستفيد ، وهذا للأسف الشديد يغلب على جُل إن لم نقل كل الجهات الحكومية والأهلية الدَّاعمة ، والذي وقفنا عليه ورأيناه وأدركناه وآمنا به أن تلك الفئات التي تطلب الدَّعم لا تخلو من أحد هذه الأقسام أو بعضها مجتمعة : أ فئة تكذب جملة وتفصيلاً ، وهذا مثل أحد المشرفين على دعاة جهة حكومية طلب دعمًا لمشروع ملجأ للأرامل ، وقد مضى على حصوله على الدَّعم الكبير أكثر من ثلاث سنوات ولم ينفِّذ منه أي شيء ، كما أن المشروع المزعوم لا يُناسب هذا البلد إطلاقًا لاستحالة وجود مثل هذه الفئة في هذا المجتمع كما هو الحال في السعودية تمامًا . ومشرف آخر على دعاة لجهة أُخرى طلب مساعدة لأهالي منطقته التي يزعم أنها تعرّضتْ لفيضانات مُدمِّرة وسطّر ملحمة مبكية ، في حين أن هذه المنطقة لم تشهد شيئًا من هذا القبيل إطلاقًا . وثالث يطلب أموالاً لأجل إقامة برامج تلفزيونية ، وقد أخبرني بنفسه أنه كانت تأتيه أمول تصل أحيانًا إلى عشرة آلاف دولار ، وفي لقاء مع أصحاب الشأن في التلفزيون سألتهم عن سبب أخذهم لأموال لمن يُريد أن يُشارك معهم في البرامج ، فأكدوا لي عدم صحة هذا الكلام ، وطلبوا منّي أن أرسل من أُريد لأجل المشاركة دون مقابل ، وقد فعلتُ وفعلوا . وآخر طالب بدراجات نارية لمن أسماهم الدُّعاة المتجولون! وهو كاذب أفّاك ولا يوجد في هذه البلاد مثل هذه الفئة بتاتًا ، فالذين هم مُعيَّنون من جهات سعودية لا يقومون بوظيفتهم إلا قليل منهم وعلى دخن فكيف بمن لا يمتّون إلى هؤلاء بصلة ؟ وأعطاني أحدهم ملفًا كبيرًا عن جمعيته التي أسماها (جمعية الأطفال المساكين) ، ويطلب دعمًا بمبلغ عشرة آلاف دولار ، فلمّا اطلعت على الأوراق رأيت أن نظام الجمعية شبيه بنظام المؤسسات الدولية ولا أستبعد أنه نسخه من كتاب وقع عليه فأردت أن أُداعبه فسألته عن قصدهم بالأطفال المساكين ، فخلّط وارتبك وتناقض في جوابه ، وأخيرًا اكتشفت أنه هو رئيس الجمعية وأنه هو الأعضاء ، وليس لديه أي عمل سوى التسول باسم هذه الجمعية المزعومة . فضيحة المنشار..!! وعلمتُ مرة أن أحد الدُّعاة طلب من أحد المحسنين مساعدته في بناء مدرسة ، وقدّر الله أن اجتمعتُ بهذا المُحسن في الحرم المكي ومعنا هذا (الداعية) ، فبدأ هذا المتبرع يثني على ذلك الداعية وقال: إنه من حرصه على الإنشاء والتوفير في البناء طلب شراء منشار كبير لقطع الأشجار لأجل عمل أبواب للمدرسة بدلاً من شرائها. فنظرتُ إلى الداعية نظرة عرف منها أني أُدرك كذبه في دعواه تلك ، فحاول مباشرة صرف الموضوع وردد بأنه لا يقصد عمل الأبواب وإنما الاستفادة من المنشار لأجل المدرسة ، لكن المُحسن أكد بأن الداعية قال له غير هذا الكلام ، فقلتُ للداعية: إنني لم أُشاهد عندكم في المدارس أبواب خشب بل أبواب حديد ، وأعلم أن أبواب الخشب لا تصلح عندكم لكثرة الأمطار ولاحتمال السرقة دائمًا ، ثم إن صُنع الأبواب يحتاج إلى منجرة كاملة ! فاحتار الداعية ولم ينبس بكلمة ، ولم يُخرجه من ورطته إلا المُحسن الطيّب الذي قال: لعله يقصد أن يكون الخشب دخلاً للمدرسة وعلى العموم والكلام للمُحسن فإن المنشار (شغلته) بسيطة لا يجاوز ثلاثة آلاف ريال وخلاص اشتريناه ! وبعدها أتاني استفسار من جهة حكومية عن داعية مؤسسة خيرية يطلب دعمًا لما أسماه (معهد القرآن الكريم) في منطقته ، وبعد التحقق حتى من هذا الدَّاعية نفسه اتضح أن هذا المعهد وهمي ، بل هذا الشخص نفسه نسي ما كان قد طلب !! ب فئة تُنجز شيئًا من المشاريع التي طلبت الدَّعم لها ، لكنها تأخذ نصيب الأسد من هذه المساعدات ، وهي تختلف بمقدار أخذها من هذه الأموال ، لكنها بالجملة لا تصرف جميع الدَّعم على المشروع أو العمل ، وهذا كثير جدًا ولا حصر له ، وخاصة في بناء المساجد والمدارس وحفر الآبار . ج فئة تُنجز فعلاً وبالطبع ليس بجميع ما وصل إليها ولكنها تستغل هذه المشاريع والإنشاءات لصالحها الشخصي أو لمصالح قبلية أو فئوية أو قروية ونحوها ، وهذا هو الغالب ، والأدلة على هذا كثيرة ، فمثلاً إذا كان المشروع مدرسة فإن القائم بالعمل بعد بنائها يستغلها مدرسة خاصة له ، فيأخذ رسومًا باهظة من الطلاب ، وفي الوقت نفسه يتسول بها في الداخل والخارج ، فيُطالب أهل الحي أو القرية التي فيها المدرسة بأشياء كثيرة منذ البناء ، فيأخذ منهم الرمل والحصى وبعض المال ، بل وحتى اللحم والدجاج والأطعمة ؛ بذريعة أنه هو الذي أقام هذه المدرسة بجهده وكدّه ، وفي الخارج يُراسل المؤسسات الخيرية الحكومية والأهلية ويبحث عن المتبرعين في كل مكان ويرسم لهم صورة أسطورية عن مدرسته ومدى خدمتها للإسلام ووقوفها ضد التيارات المنحرفة والمذاهب الهدامة والديانات المضللة ... الخ ، وإذا ما حصل على معادلة من جامعة سعودية فإن هذا فتحًا مُبينًا لخزائن مدرارة في الداخل والخارج ، لأسباب قد يأتي شرحها . ومثل هذا تمامًا بناء المساجد وحفر الآبار ، ورأينا من كتب اسمه على هذه المشاريع بلوحات كبيرة وكأنه هو المتبرع ، وهو يحصل على دعم كبير من السكان المحليين المساكين الذين يساومهم على هذه المشاريع ، ومن الخارج يأتيه الدعم من الخيّرِين الذين يُحسنون الظن بأمثال هؤلاء . ومع الاستفادة المادية فإن المكانة المعنوية والاجتماعية لا حد لوصفها ولا لقياسها ، وقد يتعدى إلى الأبناء والأسرة وكل من يمت إليهم بصلة . والملاحظ أن المشاريع التي تقوم بإشراف هؤلاء هي من أسوأ الإنشاءات ، حتى من ناحية المظهر العام ، لدرجة أن بعضها من الأفضل ألا يُكتب عليها أنها من تمويل الجهات التي دعمت المشروع ؛ لأن هذا يُعطي تصورًا سلبيًا عن الجهة الدَّاعمة . وبعد التجربة تبين لنا أنه يمكن أن تُنجز أعمال بأقل من نصف التقديرات المقدمة من طالبي المساعدة وبأحسن مواصفات وأجودها وأجملها ، والميدان يثبت صحة هذا الكلام . وأحب أن ألفت النظر إلى أن كثيرين لا يُنجزون المشاريع التي يُشرفون عليها بكاملها ويتركونها ناقصة عمدًا ، إذ يستمرون في التسوِّل بها ، بعرض صورها على المحسنين والداعمين ، وهذا العمل أبلغ في التأثير على المتبرعين كما لا يخفى ، وأُحذِّر من الذين يحملون صورًا ويدورون بها على المانحين لأن أغلبهم مرتزقة . د فئة مثل السابقة لكنها تزيد الطين بلة بأن تُركِّز هذه المشاريع في أماكن معينة لأسباب قبلية أو إقليمية أو فئوية ونحوها ، وهذا كثير أيضًا وهو المنتشر ، لدرجة أن داعية لجهة ما بنى أكثر من عشرة مساجد في منطقته ، ويكفيها على أقصى تقدير ثلاثة منها ، هذا على الرغم من حاجة المناطق الأخرى الماسة . وآخر ذكر أن في دولته منطقة لا يوجد فيها إلا مستشفى واحد وتختلط النساء فيه بالرجال وهذا خلاف الحشمة ، وطالب بمستشفى خاص للنساء ! والمنطقة التي ذكرها هي قريته ، وفي هذه البلاد أصلاً لا يعرفون كلمة الحشمة ، كما أن المستشفيات في كل هذه الدولة محدودة وقليلة ، يضاف إلى هذا أنه يستحيل أن ينجح مشروع من هذا القبيل لأسباب يُدركها من عرف هذه البلاد ، ولكن هذا الشخص يُريده مشروعًا خاصًا لنفسه وليكون في قريته ، عبر دغدغة مشاعر الطيبين بالضرب على هذا الوتر ، ولي معرفة شخصية بهذا الرجل ، وقد بنى قصرًا كبيرًا استغرب منه رئيس دولته . وثالث تبرع له أحد المحسنين بحفر خمسة آبار ، فنفّذ المشروع فعلاً ، لكنه نفّذها كالتالي: كلها في قريته ، وجعلها في أسرته ، فواحد في بيته وثانٍ في بيت أمه وثالث في منزل أخته ورابع في مسجده والخامس هو الذي يستفيد منه الناس فعلاً ، وجميعها بتكلفة مضاعفة عن الحقيقة . ه العجيب أن هؤلاء القوم لا يتورعون أبدًا عن الكذب الصُّراح الذي يستحيل أن يصدقه أحد ، ولا يُقدِّمون التصور للأمور كما هي حقيقة ، لأسباب مختلفة ومتعددة ، فمثلاً: سألت مرة أحد الأشخاص المعنين عن رواتب الأئمة في دولتهم فقال: لا تقل عن ألف دولار. وهذا المسكين كان يتصور أننا سندفع رواتب لبعض الأئمة وسيطاله منها نصيب ، وقد علمتُ بعدها أنه لا يُدفع راتب في جميع البلاد لأي إمام ، والمبلغ الذي ذكر الرجل لا يحلم به وزير ! وسألت أحدهم مرة عن تكلفة حفر البئر السطحي فقال: أقل تقدير عشرة آلاف دولار. وبعد التجربة تبين أن التكلفة بعد التجهيز الكامل لا تزيد بأي حال عن ثلاثمائة وخمسين دولارًا ، وقد تصل إلى خمسمائة دولار على حسب المنطقة ، بل إن أحدهم أرجع سبعمائة دولار بحجة أنها لا تكفي لحفر بئر وطالب بالزيادة وإلا فإنه لن يُنجز العمل ! وهم لا يتورعون عن الإجابة عن أي شيء وإن لم يكن عندهم أي خلفية عنه أو دراية أو تجربة أو سابق علم . (2) الاغترار بالمسميات والكلام العاطفي ، فمثلاً يوجد في (...) لوحدها أكثر من ثلاثمائة جمعية مسجلة رسميًا في وزارة الداخلية ، وغالبيتها لا تعمل بصدق ، وقد صرّح لي كثير ممن ناقشتهم أن هذه الجمعيات هي للاسترزاق فقط بدون عمل وبدون تعب ، وقد قابلت الكثيرين من أصحاب هذه الجمعيات فعرفت أن الجميع رؤساء وليس من بينهم أعضاء ! لدرجة أنه أتاني شاب لم يتجاوز عمره الخامسة عشر وعنده جمعية ، وهو الرئيس والأعضاء ، وفي هذه البلاد الحصول على تصريح بجمعية من أسهل الأمور فما عليك إلا أن تدفع قرابة خمسة دولارات لتحصل على ما تُريد ، ورأيت شخصًا عنده جمعية أسمها "جمعية الإسلامية التعاونية آل سعود" ، وبهذا التركيب اللغوي الغريب يمكن أن يحصل على ما لا يحلم به في منامه ! ومثل الجمعيات إنشاء المدارس والمعاهد والملاجئ ونحوها ، والغريب أن هؤلاء القوم عندهم إبداع مُدهش في اختلاق وسائل التسول وخاصة مقدرتهم الفائقة في اللعب بالعواطف وذلك مثل دعوى الهجمات التنصيرية أو المذهبية أو هجمات المتمردين والحروب العرقية والكوارث الطبيعية ونحوها . أحدهم طالب بتعيينه داعية ورفع أوراقه إلى جهة سعودية عليا بدعوى أنه تشرد بعد أن هجم عليه المتمردون في دولة مجاورة وأخذوا سيارته ، وبعد الفحص تبين أن ما يذكره جرى قبل عشر سنوات من طلبه هذا ، ولم يزد الأمر على أخذ سيارته فقط ، وما يزعمه من قلة ذات يده كذب محض فأحواله المادية جيدة وميسورة . المتمردون حلقوا لحيته..!! وآخر دخل المقابلة الشخصية لأجل القبول في جامعة سعودية ، فسأله الدكتور الذي يُقابله لماذا يحلق لحيته ؟ فأطرق الشاب ثم رفع رأسه حزينًا وحكى للأستاذ الطيب كيف أن المتمردين في الدولة المجاورة أخذوه وعذّبوه وحلقوا لحيته ! وكل ما ذكره هذا الشاب كذب ولم يسبق له أن ذهب إلى خارج منطقته فضلاً عن خارج بلاده ، وحتى لو صدق فإن المتمردين قد انتهى دورهم قبل سنتين على أقل تقدير من حكاية الواقعة ، وقد أدركت هذا الشاب وقد اجتاز السنة الثانية في كلية الشريعة ولم تزل لحيته لم تخرج بعدُ بسبب فعل المتمردين ! وهو الذي حكى لي الخبر . وحينما نحكي هذه الوسائل في الحصول على المغانم فإننا لا نستغربها من أُناس يسعون لجلب المال بأي طريقة ، ولكن يجب أن نُدرك أننا نتحدث عن النخبة الذين يفترض فيهم أن يحملوا همّ الدعوة ومسؤولية العلم والتعليم الشرعي ، كما أننا نأخذ على إخواننا الذين يُفْرِطون في الثقة وتصديق كل ما يُقال وأن تكون عواطفهم جياشة لدرجة السَّذاجة ، لقد أرسل أحد دعاة جهة ما رسالة إلى جهة حكومية يطلب بعض الكتب ، ولم يغب عن ذهن الرجل أن يكتب العبارات المألوفة للتجاوب معه ، ومما ذكر أنه يُريد الكتب لحاجة الدعوة السلفية إليها ، ثم كتب عبارة (السلفي) في نهاية اسمه ، والغريب أن الجهة الحكومية العريقة بدلاً من أن تُرسل له كتبًا فقط ، أرسلت استمارة طلب توظيف له داعية عندها ، على الرغم من كونه يتبع جهة سعودية أخرى ! مخادع العرب..!! إن نجاح هؤلاء الناس في جلب الأموال الضخمة لمصالحهم الشخصية جعل الناس في مثل هذه البلاد يقولون عنّا بأننا أغبياء ، وقد صرّح لي كثيرون بهذا ، وقال لي أحد المسؤولين الكبار إننا نراكم دراويش تُصلُّون وتتصدقون فقط ولا تفهمون أي شيء في الحياة وخاصة في أمور السياسة والواقع ، وقد أطلقوا على أحد المشرفين التابعين لإحدى الجهات لقب (مُخادِع العرب) لكثرة سرقاته النظامية ! والحق أنني لا ألوم هؤلاء الناس سواءً في أفعالهم أو نظرتهم إلينا ، فأنا أُشِّبه حالنا وحالهم بشخص يُطل من نافذة بيته ويرمي بأمواله في الخارج والناس يتزاحمون لأخذها ، فمن يرى حال الرجل وحال الناس لا يمكن بحال أن يتهم هؤلاء المتزاحمين بالجنون وإنما سيرمي من يرمي أمواله بهذه الصفة . (3) يلاحظ الارتجالية في أغلب الأعمال الخيرية وعدم الدراسة المتأنية وغياب أهم عنصر في نجاح الأعمال وهو رسم الأهداف بدقة ومسؤولية ، وهذا هو الذي يجعل النتائج في الأغلب محدودة والثمرة قليلة على الرغم من ضخامة المساعدات وكثرة المشاريع وتعدد الجهات الداعمة ، ومن وجهة نظري لو أن ربع ما صُرف مثلاً على بعض الدول وجه توجيهًا سليمًا وصحيحًا لكانت النتائج خيالية ، في حين أن من يطلّع على واقع البلاد والعباد بعد كل ما بُذل في تلك الدول يصاب بخيبة أمل كبيرة وإحباط رهيب ، فمثلاً بُنيت مساجد لا حصر لها ومع ذلك نجد أن البدعة فيها منتشرة والصراع عليها كبير بل أصبح بعضها سببًا في الخلاف والتشاجر ، هذا فضلاً عن ضعف المصداقية في التنفيذ والتي سبق الإلماح إليها ، ومثلها المدارس والمعاهد التي لا تعدو أن تكون مدارس عادية جدًا وليس بينها وبين المدارس الحكومية أي فرق سوى بعض المظاهر الخدّاعة ، التي لا أريد أن أدخل في تفاصيلها لحساسيتها . (4) انعدام المتابعة والمحاسبة والمراقبة الدقيقة ، وعدم إدراك الواقع الحقيقي والاعتماد على فئة محدودة ، وقد يكون شخص واحد هو المصدر لكل شيء وهو المسؤول عن كل شيء في دولة كاملة ! (5) عدم التنسيق بين الجهات العاملة ، ففي بعض الدول مثلاً نجد تمثيل لرابطة العالم الإسلامي وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية والندوة العالمية للشباب الإسلامي ووزارة الشؤون الإسلامية ومؤسسة الحرمين الخيرية ولجنة مسلمي أفريقيا وإحياء التراث ، هذا فضلاً عن المساعدات التي تأتي عن طريق السفارات أو بعض المؤسسات التي ليس لها تمثيل في الخارج مثل لجنة إعمار المساجد ومؤسسة الراجحي الخيرية ونحوهما ، وكل هذه للأسف الشديد تُقدِّم أموالاً ضخمة وتبذل جهودًا جبارة ومع ذلك فإن الأعمال المثمرة قليلة ، والموجود هو تكرار واجترار مستمر ، وكل واحدة من هذه الجهات تقع في المطبات نفسها وتبدأ من حيث بدأ غيرها . (6) الاستعجال في القرار والتنفيذ ، إذ مما يحز في النفس ويُقلق الخاطر أن يقوم شخص أو مجموعة بالسفر إلى عدة دول في أيام قلائل وبسرعة خاطفة وعلى وجه السرعة ، ثم يتخذون القرار حول نوعية الحاجة ومقدار المساندة ، وفي كثير من الأحيان يعتمدون ما سبق طلبه من من أهل تلك البلاد ، في حين أن هذه أمانة ليس من الهين التساهل بها بهذه الصورة ، خاصة أن تراكمات من المشاكل والأخطاء تحدث بسبب هذه القرارات المستعجلة ، والمسؤول الأول عنها هو من قررها أو اقترحها على عجلة من أمره دون إحساس بالمسؤولية الدنيوية والمساءالة الأخروية ولدي أمثلة ذكرها يطول . (7) التشابه في الأعمال والمشاريع ، والتكرار لها في كل مكان وفي كل دولة ، دون النظر في ظروف وحاجات ومتطلبات كل مجتمع وما يصلح له ، فكثير مما يُطبّق في المملكة مثلاً لا يصلح البتة في البلاد الأفريقية ، وما يُناسب في الأخيرة غير مقبول في القارة الأوربية وهكذا ... التوصيات والمقترحات (1) لا يصلح إطلاقًا أن يرى أولئك القوم المال بتاتًا ، ولا الثقة المفرطة مهما كان الشخص وأيًا كان دون استثناء ، ولي تجربة في إفطار رمضان عام 1422 ه سجلتها في كتابة مُستقلة . (2) يجب رسم الأهداف بدقة وتحديد الحاجة وفق الاطلاع الميداني من مجرّب خبير نابه قبل القيام بأي عمل . (3) ضرورة التقصي في كل شيء ، مهما تَطَلَّب من الوقت والجهد ، ولا يجوز أخذ كلام من شخص واحد أو حتى من مجموعة ، ولا بد من الوقوف على الواقع والتفتيش الدقيق على كل شيء مهما صغر ، ومن الغلط أخذ كلام أُناس تجربتهم في الحياة قليلة واطلاعهم محدود ورؤيتهم قاصرة ، مثل من يستشير في شراء سيارة من لم يركبها قط فضلاً عن أن يمتلكها ، وهذا يحدث مثله كثير في البلاد المتأخرة بصور مُتعددة ، وليس فقط في الإنشاءات وإنما أيضًا في البرامج والنشاطات . (4) لا أرى أي مبرر للعمل خِفية أو في الظلام أو من وراء حُجب أو تحت البساط ، ولا بُد من الظهور في العلن والعمل تحت الشمس واستخدام الإعلام لإشهار المساعدات والإعانات والإنجازات ، فمن يُعطي هو صاحب اليد العُليا ، ويجب فرض شروط واضحة وصريحة ومباشرة ، خاصة في الأعمال المستمرة ، وعند مخالفتها أو نقض بعضها يوقف كل شيء ، ولم يضر الأعمال الخيرية إلا النّظرة الدُّونية والعوائق النفسية والظنون المزعومة ، وشرح هذه الفكرة يطول ، لكن المقصود أن أرض الله واسعة ومن لا يعجبه العمل الصحيح فليس هناك حاجة لملاحقته ، والمحتاجون كثير وسورة عبس فيها عظات عظيمة . (5) كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُتابع عمّاله ويُحاسبهم محاسبة دقيقة ، وهم من الصحابة ، واشتهر عمر رضي الله عنه بهذا جدًا حتى تميّزت سياسته الصارمة في هذا الباب ، على الرغم من شدة انتقائه لعماله وأمرائه ، أفنهمل نحن هذا الباب في هذا العصر وفي مثل تلك المجتمعات التي ترسبت فيها مخلفات من السوء لا حصر لها ، وتراكمات من الأخلاقيات والعادات والسلوكيات المنحطة والتي يصعب على من تربى في هذا الجو التخلّص منها ، وعند هؤلاء القوم بعض الأفكار والمسلّمات التي لا ينفكون عنها مهما بلغت رُتبتهم في العلم والدِّين ، وذلك من مثل التساهل في أكل المال من أي طريق كان ، والكذب الصريح ، وقلة الأمانة وشدة العصبية للعرق واللون والتراب ، وهذه الصفات تجمعهم ويزيد عليها بعضهم مساوئ أخرى ليس هذا مجال حصرها . حُدِّثتُ أن رجلاً وثقتْ به جهة خيرية خليجية ، فدعمته بلا حدود ، فلما استغى من تلك التبرعات التي تنهال عليه ، أصبح ذا شأن في بلاده حتى هابه بعض المسؤولين ، ولما فاحت رائحة نصبه وسرقاته ، جاء القائم على تلك الجهة الخيرية ليحاسبه ، فغضب واستكبر ، ومن ثَمَّ دبر مكيدة فسجن ذلك المحسن الكبير ، ولم يخرج إلا بوساطة قوية من سفارة ذلك الرجل . (6) إذا كنا نُطبِّق في بلادنا وفيما بيننا شروطًا كثيرة عند التكليف بالأعمال ونحن نتعارف جيدًا فيجب أن نُضاعف هذه الشروط والضوابط على الآخرين ، والحق أن الأفارقة عرفوا شخصياتنا حينما قالوا عنّا: "العرب يرون البعيد ولا يرون القريب" ، وهذا التوصيف حقيقية آمنتُ بها ، وقد طرقتُ أبوابًا عديدة لأجل الحصول على الدَّعم لأعمال خيرية ودعوية ولم أجد أي تجاوب ، وأرى مِن حولي مَنْ يُرسل أوراقًا مهلهلة بخط لا يٌقرأ ولا تُفك رموزه فيأتي المدد من كل مكان وبسرعة الضوء ! (7) إن أسلم طريقة لنجاح الأعمال وسلامتها من أغلب الأمراض السابق ذكرها والضمانة الأكيدة لتحقق المقصود بإذن الله هو وجود مسؤول سعودي الجنسية ولا أحد غيره ، خاصة إذا كان العمل كبيرًا . (8) لا بُد من الاتجاه في الخط الرأسي بدلاً من التوسع عرضيًا ، ويجب أن تختفي من قواميسنا لغة الأرقام دون النظر في النتائج الحقيقية ، فإذا أنشأنا مدرسة فمن المفترض أن نرسم لها مناهج متقنة وبرامج عالية ونختار لها نوعية متميزة من الطلاب والعاملين مهما صغر حجم المدرسة وقلّ المتخرجون ، وحينها سنقول خرّجنا عشرة أشخاص يعدلون ألفًا ، لا أن نقول درس عندنا عشرة آلاف وكلهم صور مُستنسخة نحمل عبأهم بعد ذلك . (9) حبذا لو لجأنا إلى التخصص في الأعمال ، إذًا لأنجزنا وأثمرنا وأبدعنا ، وإني لأستغرب من بعض الجهات التي تنشأ متخصصة في مجال ما ، ثم تبدأ في التوسع في فروع أخرى حتى تطغى على من سبقها بسنين طويلة في مجالات متخصصة ، وفي النهاية لا تُحقق مقصدها الذي نشأت من أجله ولا هي تركت الآخرين وتخصصهم . ومن اللافت أن بعض الجمعيات والجهات الخيرية تفخر بتعدد أنشطتها وتنسى أن العبرة بالنتائج لا بالأرقام ، بل من العجيب أن بعض الجهات فيها فروع متعددة وكل فرع يشابه الآخر بأنشطته ، والاختلاف في المسمى فقط ! (10) إن الاعتماد على المتبرعين في الإشراف والمتابعة ورسم الخطط والبرامج ونحوها هو الذي جعل العمل فَضْلة عند الأغلبية وليس هدفًا أوليًا ، والواجب هو اختيار من يتميز بالكفاءة والتجربة والحنكة لإدارة الأعمال الخيرية ويكون متفرغًا وبرواتب مجزية ، هذا سواء في الداخل أو الخارج ، والذي أعجب له أن يُصرف مثلاً مبلغ كبير على مركز إسلامي يضم جامعًا ومدرسة وسكنًا ومستوصفًا وملاحق أخرى ، ثم يُضن ببعض المال على من يصلح لإدارة مثل هذا المركز الكبير ، ومن قبلها يحدث أن لا يُرسل من يصلح حتمًا لمراقبة إنشاء مثل هذا المشروع بحجة أنه يحتاج إلى مكافأة عالية ، أو لا يُعطى لمهندس جيد بالحجة نفسها ، فيخرج العمل مشوهًا ممسوخًا ! (11) لا بد من الوعي بطبائع الشعوب ، وعيًا لا إفراط فيه ولا تفريط ، ومن الملاحظ أن البعض يذهبون إلى منطقة ما فيُستقبلون بحفاوة من أهل تلك المنطقة أو من بعض الفئات أو الأشخاص ، فيرجع الوفد بتصور ملائكي ويطالب بكل قوة بدعم كبير ومتواصل ، وقد يصل الأمر إلى المطالبة بقصر جميع النشاطات على تلك المنطقة أو الفئة ، والعكس تمامًا ، وكل هذا يكون بسبب انعكاسات نفسية قاصرة تؤثر بالتالي على النشاطات والأعمال الإسلامية ، وهذه نقطة شرحها يطول . طلع البدر علينا..!! لكن من الطرائف المبكية أن تاجرًا مشهورًا زار دولة مسلمة ، فاستقلبوه بأطفالهم يهتفون: طلع البدر علينا ... ومن شدة تأثره بهذه المظاهر استمثر بملايين الدولارات في هذه الدولة ، وما أن وضع أمواله حتى أصبح عندهم شرًا بعد أن كان بدرًا ! وطُرد ولم يأخذ فلسًا ! والقصص من هذا القبيل كثيرة . (12) إن نتيجة ما قُدِّم من أعمال خيرية فيه ضعف شديد ، والسبب هو العطاء بدون ضوابط ولا شروط ، ولنا في تجربة الغربيين عبرة وفائدة ، فهم لا يبيعون فضلاً عن العطاء إلا بشروط واضحة وصريحة ، فلماذا نحن مفروض علينا أن نُعطي لأجل أن نُعطي ؟! لماذا نواجه العقبات الرسمية والشعبية ونحن نُعطي ؟! هل يرضى أحدنا أن يتصدق ثم يُصفع على وجهه من الفقير ؟ رأيتُ للأمريكان في دولة (...) مدينة كاملة يقال لها (...) ليس للحكومة فيها أي سلطة ، حتى التعامل فيها بالدولار ، وهي مدينة يسكن فيها عمال التنقيب عن المعادن ، ولهم أيضًا مستوطنة أخرى في منطقة (...) هي للمنصّرين ، وفيها كل ما يُريدون ويعملون فيها ما يشاءون ، وفي المقابل لا يُقدِّمون أي نوع من المساعدات إلا بشروط وضوابط ، في حين أن المملكة أقامت مثلاً مركزًا إسلاميًا في تلك الدولة لا مثيل له ومع ذلك ليس لها أي مشاركة لإدارته ! إننا نواجه مشاكل كثيرة كلها ابتزاز وعدم احترام واستعلاء ، ثم نوصي بعضنا بالدَّنِيّة ونظن هذا احتسابًا ، لقد قيل لي: نحن نُجاملهم ! ونتألفهم ! وللأسف لم نُحدد معنى المجاملة ولا التألف وما حد ذلك وإلى متى ؟ أليس لهذه المساعدات مردود معنوي فيه أبسط معاني الاحترام وفسح المجال على الأقل ؟ إننا نواجه العائل المستكبر ، بل وحتى المعاند ، ونحن نستمر نجامل ماديًا ومعنويًا ، ففي كثير من الدول نجد أضخم الإنشاءات على جميع الأصعدة ، جاءت من طريق المملكة حكومة وشعبًا ، لكن لا تعرف شعوب تلك الدول عنها إلا القليل ، ولا اسم لها يدل على مصدرها ، ولا احترام لمن أقاموها أو من يسعون لإقامة أشياء غيرها ، فما هو السبب ؟ بكل بساطة نحن الذين جعلناهم يقتنعون بأنهم أصحاب حق وأن الإسلام لنا ونحن المسؤولون عنه فقط ، بتصرفاتنا الطيبة والساذجة أحيانًا . لقد قابلت مرارًا بعض التجار الكبار من تلك الدول يطلبون مساعدات لأعمال خيرية لا تتجاوز خمسين ألف دولار ! فلا أدري ما دور هؤلاء إذًا في الزكاة فضلاً عن الصدقة ، لدرجة أن أحدهم قدّم لي أوراقًا لمسجد يُريد أن يبنيه باسمه وقد باع جوهرة ألماس قبلها بأسبوع بقيمة مليار من عمله بلده ، أي بما يُعادل خمسمائة ألف دولار ، وهذا الرجل أكبر تاجر ألماس في بلاده على الإطلاق !! * أكاديمي بجامعة القصيم