!! شبابٌ بالمئات، علقوا عقولَهم على الأبواب، ودخلوا عالماً من الطيش كنا نحرِّمه حتى في الخيال...، مارسوا كلَّ ما هو ممنوع في قوانين الأرض والسماء، ولم يردعهم خوف، ولم تضطرب بهم خشية . أغلقوا الشوارع بمهارة يحسدون عليها، وأخذوا يستوقفون المارة واحداً فواحداً، يجيزون من يشاؤون ويمنعون...، ولم يفرِّقوا في ممارسة طيشهم بين رجلٍ وامرأة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين سعودي ومقيم، بل تجاوزا الذوات إلى تكسير الأشياء بدءا بالنوافذ، ومروراً بالأثاث، وانتهاء بأعمدة الإنارة الصغيرة واللوحات الإرشادية، ولم يقفوا عند الأشياء وهي جوامد، وإنما تجاوزوها فأساؤوا إلى المعاني التي تميزنا بها زمناً، والأخلاق التي تباهينا بها طويلاً أمام أهل المشرق والمغرب، وفوق كل ذلك هتفوا بكلماتٍ تضيق بها الأرض والسماء، وما هم بملومين فمن حق الأذن أن تعشق أيضاً !! هنا لن أتحدّث عما حدث، لأنّ الحديث مهما أبلغ لن يكون قادراً على وصف الحادثة، ولا بعضها، لكنني سأتوجه بالحديث عنها من وراء الكواليس، انطلاقاً من ملفات يجب أنْ نكشفها قبل أن تكشفنا، وعن قضايا يجب أنْ نعالجها قبل أن يفوت الأوان، وتظل هذه النقاط والقضايا التي سأثيرها اجتهاداً قابلاً للخطأ والصواب، وما أقدمتُ على الكتابة فيها أو عنها أو حولها إلا وأنا أستشعر أمانة الكلمة مكتوبة ومنطوقة، وقد لا أكون مبالغا إذا قلت: إن الكتابة حول هذه الحادثة من أسمى معاني (الوطنية)، فما كان حبُّ الوطن في ثقافتنا تمايلاً بالخرق والصور، ولا تراقصاً على نغمات أغنية غزلية لا تمتُّ إلى الوطن بصلة، ولا صراخاً وزعيقاً في الممرات المظلمة، ولا مضايقةً للناس في أرزاقهم وأعراضهم. لقد كان أسلافنا الذين مضوا أكثر حباً للوطن منا، ولم يفعلوا ما يفعله بعضنا، إذ كان حبهم يتجلى في المعلم الصادق المخلص، ورجل الأمن المقدام، والتاجر الذي لا يكذب، والعالِمِ الذي لا يقول على الله إلا الحقّ...، وقضوا نحبهم دون أن يسفكوا دماً، أو يخنقوا وردة، أو يقتلعوا غراساً...، في حين لا نرى الوطن اليوم إلا كلاماً عابراً في هذه الدنيا العابرة... النقاط خمس ... النقطة الأولى: أثبتت حادثة الخبر البشعة بما لا يدع مجالاً للشك أن إعلامنا – المقروء تحديداً – يغطُّ في سبات عميق، وأنه ليس مصدراً للحقيقة الكاملة كما يزعم، وأنه لا يملك القدرة على الموازنة بين العرض والمعروض، فهو يوسِّع من بعض الأحداث حتى تكون أكبر من جبل أحد، ويصغِّر بعضها حتى تكون كمفحص قطاة، ولقد أثبتت الحادثة أيضاً أن إعلامنا انتقائي بامتياز، ينقل ما شاء ويتغاضى عما شاء، فلقد تتبعت صحفنا الكريمة منذ الحادثة وحتى اليوم فساءني أن بعضها ضرب صفحاً عما حدث وكأن شيئاً لم يكن، وحين خجلت بعض الصحف من الناس تعاطت مع هذه الحادثة بشكل مجخٍ ومهلهلٍ، يستر الحقيقة أكثر مما يكشفها . النقطة الثانية: أشرت في النقطة السابقة إلى أنّ إعلامنا انتقائي بامتياز، وهنا أفسر هذه الانتقائية بأنها وليدة اتجاه فكري، يمارس على القراء إقصائية غريبة، فهو لا يسمح للقراء أن يقرؤوا كلّ شيء عن طريقه، وإن سمح لهم فإنه يتدخل لتوجيه هذه القراءة وجهة معينة، تخدم توجهه الفكري...، وسأضرب هنا مثلاً واحداً على ذلك : في 27 / 11 / 2006م قام مجموعة من الشباب الموصوفين بالاستقامة بإحداث شغب في (كلية اليمامة) ب (الرياض) على خلفية مسرحية بعنوان (وسطي بلا وسطية)، رأوا فيها – بحسب اعترافهم - سخرية من الدين أو من المستقيمين على نهجه، وكان عددهم يومها خمسة وعشرين شاباً، أحدثوا في قاعة العرض عدداً من التلفيات، وتجاوزوا خلق الإسلام - الذي جاؤوا للدفاع عنه - فأخذوا يرشقون الممثلين ومنظمي الفعاليات بالأحذية، ومدوا أيديهم بكلِّ وقاحة على رجال الأمن فضلاً عمن سواهم...إلخ) وما كادت أحداث الشغب تنتهي حتى أطلقت صحافتنا لسانها المسلول، وفتحت أبوابها للكتاب من كل حدب وصوب، ليكتبوا عن هذه الحادثة البشعة، ويدينوها بأقسى لغة وأنكى صورة، وانطلق الإخوة الصحفيون بمسجلاتهم وعدساتهم إلى العلماء في محاريبهم ومكتباتهم، وعرضوا عليهم ما حدث ليأخذوا منهم ما يكفي من الإدانة والشجب والاستنكار، وتبارت الصحف كلها في نشر الصور، وفي التعبير عنها كما لو كانت انقلاباً مسلحاً ضدّ الدولة، وألبسوا المشاغبين ألف شتيمة وشتيمة، واتهموا عدداً من المحتسبين بالتحريض والفتنة، وطالبوا بإيقاع أكبر العقوبات في حقّ هؤلاء المتشددين...، وربطوا ما حدث بالإرهاب، وبتنظيم القاعدة، وظلت الصحف تلوك هذه الحادثة أياماً طوالاً، وما زالت ما بين آونة وأخرى تبدي وتعيد في تلك الحادثة وتوقظها لتخدم بها مصالحها الفكرية، وشدني أنّ رؤساء التحرير - مشكورين - ساهموا في الكتابة عن هذه الحادثة، وفي التحذير من توابعها . كانت الصحافة وقتها في الموعد، ومن وجهة نظري المتواضعة فقد أُعْطِيَتْ الحادثة -إعلاميا - فوق ما تستحقّ، لكنها ساهمت في تجييش الرأي العام ضدها وضدّ من قام بها، وأنا إذ أشكر لصحافتنا ما قامت به آنذاك على ما فيه من علّات، فإنني أتساءل اليوم بألم عن صمت بعضها المطبق، وصمت بعضها (النسبي) إزاء حادثة (الخبر)، خاصة أن الحادثتين مختلفتان في الكمّ والكيف والمجال والأثر، والقاعدة تقول \" ما يصدق على الأدنى يصدق على الأعلى من باب أولى\" - في حادثة اليمامة لم يتجاوز عدد المشاغبين خمسة وعشرين، وأما في حادثة الخبر فكانوا بالمئات – كما تقول الصور ومقاطع (اليوتيوب) -، وعدد المقبوض عليهم حتى هذه الساعة مئة وثلاثة عشر شاباً، ولربما أسفرت الأيام القريبة عن عدد أكبر من ذلك . - في حادثة اليمامة كان الشغب مستنداً إلى سبب محدد مهما كان هذا السبب ساذجاً، وأما في حادثة الخبر فكان الشغب من أجل الشغب، ولم يتضمن – حتى هذه الساعة - لا في صيغته ولا في بعدياته مطالبات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية . - في حادثة اليمامة كان المكان محدوداً (قاعة العرض) ولم يتجاوزها حتى إلى ساحات الكلية، وأما في حادثة الخبر فقد مد الشغب كلتا يديه، وطوى الذوات والمعاني والأشياء، وأوقف السير، ومارس التحرش والأذى . - في حادثة اليمامة كان المعتدى عليهم محددين بالعدد وبالأشخاص، وأما في حادثة الخبر فكان المعتدى عليه كل أحد، ولم يسلم منه حتى المقيم الذي جاء يغسل بماء البحر غربته وألمه . إذن ليست هناك إمكانية للموازنة بين الحادثتين، ورغم ذلك كله تعاملت الصحف مع حادثة اليمامة بكلِّ ما تملك، وأعرضت عن حادثة الخبر ! لماذا يا ترى ؟ سؤال لا بد أن نطرحه، ولا بد أن يفسره كل أحد بما يتوافر عليه من معطيات . من وجهة نظري المتواضعة أجيب عن هذا التساؤل المهمّ بالتوجه الفكري، فهو السبب الذي يوجه بعض الصحف توجيهاً انتقائياً، فيجعلها تبدي شيئاً وتخفي أشياء . لقد كانت حادثة اليمامة محسوبة على التيار الإسلامي الذي يوصف بأنه يعارض الفنّ ويكره الجمال، فإبراز الحادثة بتفاصيلها يعطي خصوم التيار الإسلامي مادة كبيرة، يمكن أن يقطِّعها كل أحد منهم وفق رؤيته ووفق ما يتوافر عليه من جرأة ووضوح، وتمنحه الفرصة لينفذ منها إلى مهاجمة التيار نفسه والمنتمين إليه، وهذا ما حصل فعلاً فقد تفنن الكتاب المصنفون على أنهم ليبراليون في تحليل هذه الحادثة تحليلاً بدا متعقلاً وعلمياً عند بعضهم، وساذجاً أو كوميدياً عند بعضهم الآخر، وأذكر أنني أخذت أضحك بهستيرية وأنا أقرأ لأحدهم وهو يربط حادثة اليمامة بتنظيم القاعدة، وبثقافة طالبان، وبأحداث الحادي عشر من سبتمبر !! حادثة الخبر مختلفة تماماً من هذه الناحية، فهي متعلقة باليوم الوطني الذي كان يتحفظ عليه التيار الإسلامي، وما فتئ الإخوة الليبراليون يحثون عليه شعراً ونثراً، وإبراز هذه الحادثة بتفاصيلها سيجعل منها مادة للعلماء، والدعاة، وخطباء الجوامع، وأئمة المساجد، ولكل من يتحفظ على الاحتفاء بهذا اليوم، لذلك رأت بعض الصحف – وأشدد على كلمة بعض – الإعراضَ عن الخوض في تفاصيل هذه الحادثة، ولم تشأ فتح ملف تدان فيه العقلية التي تنتمي إليها، ومما يؤكد ذلك تلك الردود التي طالعتها في الصحف الإلكترونية، وتعليقات الزوار على بعض مقاطع (اليوتيوب) الخاصة بالحادثة، فنسبة كبيرة منها كانت تدين الاحتفاء باليوم الوطني أكثر من إدانتها بالمشاغبة، وكانت تترحم كثيراً على الشيخ ابن باز - رحمه الله – في إشارة ضمنية منها إلى فتواه الشهيرة ببدعية الاحتفال بهذا اليوم . ردة الفعل هذه كانت واضحة بالنسبة إلى العقلية الصحفية الإقصائية، فلذلك رأت تغييب الحادثة أو التعاطي معها بنعومة مفرطة تفوِّت على التيار المخالف فرصة الاستغلال والهجوم . لا أزعم أن تحليلي هنا صحيح بنسبة كبيرة، فقد تكون هناك أسباب أخرى دفعت هذه الصحف إلى التكتُّم على هذه الحادثة، لكنني متأكد من أنّ تلك الصحف كانت تفكر في ممارسة هذا التكتّم بشكل جاد. النقطة الثالثة : كشفت هذه الحادثة عن ضعفنا في التعامل مع الحوادث التي تمر بنا، وعن قدرتنا المذهلة في تطويع كل حادثة لمصالح فردية أو جماعية حتى وإن تضرر منه الوطن بشكل عام. لقد أحزنني وأنا أتابع كثيراً من الصحف الإلكترونية تعريضاً بالعلمانيين والليبراليين، ولربما عرّض بعضهم بأسماء بعض الصحفيين، في إشارة سطحية إلى أنهم السبب فيما حدث، وأنهم كانوا يطمحون إلى مثل هذا الانفلات...، واستغل بعض الإخوة المستقيمين الحادثة فراح يحذر من إقامتها مجدداً، متباهياً بأنه – ومؤيديه – كانوا على علم بما حدث من قبل أن يحدث ... جميع هذه التعليقات ابتعدت عن إدانة القائمين بالشغب، واقتراح الطرائق المناسبة لعلاجهم، ومحاولة البحث عن دوافع جريمتهم البشعة، وذهبت بعيداً في مبارزة أتباع التيار الليبرالي، وكأنها تقول له بشكل ضمني : \" الخبر باليمامة والبادي أظلم \" . وحتى بعض الذين تطرقوا للشغب من حيث هو لم يوفقوا للطرح الراقي والواعي، ولقد ضحكت حزناً وأنا أقرأ مطالبات بعيدة عن المنطق من مثل : \" السيف الأملح \" / \" أقيموا عليهم الحد \" / \" ارموهم في البحر \" / \" افصلوهم من جامعاتهم ووظائفهم \"...إلخ، ومطالبات أخرى يعفُّ المرء العفيف حتى عن الاستشهاد بها !! مثل هذه المطالبات تدلُّ على أننا ما زلنا في المربع الأول، تتطور أشياؤنا ونحن بعدُ قابعون في درجة الصفر، وأخشى ما أخشاه أن يكون بعض أصحاب هذه المطالبات من التربويين، وحملة الشهادات العليا، فحينها يمكن أن نستبشر من الآن بطول انتظارنا على العتبات . النقطة الرابعة : صرح مصدر أمني في المنطقة الشرقية أن ملف القضية على طاولة سموِّ أمير الشرقية بانتظار توجيهه وأوامره، ومع أننا نمتلئ ثقة في سمو الأمير، فإن توجيه الأمير وأوامره ستكون مبنية على ما يصله من المصادر الأمنية، وحتى يومنا هذا لم أرَ أن المصادر الأمنية تفاعلت خطابياً مع الحادثة بشكل يوازي حجمها وأضرارها، بل إنّ أحد رجال الأمن قدم عن الحادثة تصريحاً باهتاً، وكأنه لا يعلم أن هناك أكثر من عشرين مقطعاً على موقع (اليوتيوب) تغنينا عنه وعن تصريحه، وهنا أدعو من تصله هذه المقالة من مسؤولي إمارة المنطقة الشرقية إلى أن يطالعوا هذه المقاطع واحداً واحداً، وأن يتابعوا الصور التي تناسلت بشكل غريب في عدد من المواقع الخليجية، وأن يفتحوا خطاً هاتفياً لتلقي شهادات مرتادي الكورنيش ساعة الحادثة، وأن يفيدوا من بعض تصريحات المسؤولين غير الأمنيين الذي عبروا عن هذه الحادثة، وأخص هنا تصريح مدير بلدية الخبر الذي عبر عن الحادثة بلغة جريئة وشجاعة تفوق كثيراً – من حيث المستوى - اللغة التي عبر بها بعض المسؤولين الأمنيين، ويكفي أن تصريحه المهم ولد في بؤرة الحادثة. وبعد أن تجمع هذه المعلومات وترتّب ترتيباً حكائياً يتمُّ رفعها بالصوت والصورة إلى سموِّ أمير المنطقة، وأنا على يقين بأننا سنرى من سموه وقفة حاسمة توازي حجم الحادثة وتراعي أبعادها. وأرجو ألا تأخذ المسؤولين العاطفة فيصدروا توجيهات غير مدروسة يكون من شأنها خلق إحباط لدى المواطنين الذي ينتظرون صدور هذه التوجيهات بشوق كبير، ومع أننا نتطلع إلى أن تكون العقوبة سريعة ومعلنة بالتفاصيل، فإنني أرجو ألا نهتم بسرعة العقوبة على حساب نوعها، ومما هو محل تساؤل في هذا السياق ما نشرته صحيفة الوطن في عددها الصادر هذا اليوم من أن قوة من الأمن تمركزت في الكورنيش لجلد عدد من المشاغبين، وحين تجمهر الناس لرؤية العقوبة غادر رجال الأمن الموقع دون تنفيذ العقوبة لصدور توجيهات بعدم التنفيذ !! النقطة الخامسة : أرجو من والد الجميع سمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز أن يفتح ملفاً واسعاً للتحقيق فيما حدث، بغية البحث عن أسبابه – إن كانت ثمة أسباب -، ومحاسبة المقصرين من كبار المسؤولين في بلدية (الخبر) وإداراتها الأمنية، فمثل هذه الحادثة لو حدثت في دولة أوروبية لكانت كافية في إقالة مديري المراكز الخدمية والأمنية متى ثبت تقصيرهم، أو قصور خططهم واستعداداتهم !! وأخيراً، يجب علينا أن نعي جيداً أن تهاوننا في معاقبة هؤلاء الشباب سيجعلنا في السنوات المقبلة أمام كارثة كبيرة، خاصة أن نصف سكان هذه البلاد هم من فئة الشباب، وكثير من الشباب تأخذه مراهقته وطيشه إلى مدى واسع لا يُرى له آخر، وهنا أدعو انطلاقاً من حس وطني صادق، بالتحقيق مع هؤلاء الشباب تحقيقاً بعيداً عن الضغوط والإكراه، ومعرفة دوافعهم من وراء هذه الجريمة، ودراستها دراسة واعية، ومحاولة تلافيها في السنوات المقبلة، دون أن يأخذنا هذا كله إلى العفو عنهم أو الرحمة بهم، فلا بد من تجريم شغبهم، وإيقاع أقسى العقوبات عليهم، بدءا بالسجن ومرورا بالجلد وانتهاء بالتشهير بهم، وأقترح أن تتحرف وزارة الداخلية إلى إصدار بيان حاسم يحذِّر كلَّ من تسول له نفسه الإقدام على مثل هذا الشغب بأنه سيلقى مثل هذا الجزاء مضاعفاً، وحينها لن تسمعوا على كورنيش الخبر إلا تراتيلَ الموج، وألحانَ الشاذلية . خالد بن أحمد الرفاعي كلية اللغة العربية – قسم الأدب [email protected]