القلم أو ما يقوم مقامه في عصرنا الحديث منحة ربانية للإنسانية ، ونعمة من النعم الإلهية للبشر قاطبة . إذ إنه أداة لتّعبير عما في مكنون الضمير ، ومُتنفَّسٌ للنفس عما يخالجها من هموم وأفكار ، هو رمز العلم ، وشعاع المعرفة ، وهو الترجمان الفصيح عن شئون الحياة كلها . وله من الميزات ما يقصر دون تعدادها المعددون ، وتنضب جراء توثيقها أحبار المحبّرين . ويكفيه شأنا ، وشرفا أن يقسم به الله عز شأنه بقوله (نون والقلم وما يسطرون) . والله لا يقسم إلا بعظيم . أهمية القلم أولويّة حياتية لا تنازع فيها أو مِراء . له الريادة والقيادة بين أدوات البيان دون استثناء ، وللجاحظ في هذا المعنى عبارات لطيفات يقول فيها : مقارنا بين القلم والخطابة : ( إن اللسان لا يجري مجرى القلم ولا يشق غباره أو يتكلف بعد غايته فأثره ضائع وحضوره مؤقت ومداه موصول بمدى الصوت الذي سرعان ما ينقطع . أما القلم فهو علامة الحضور المتصل والزمان الممتد للكتابة) انتهى كلامه . القلم كائن حاضر لم يغب منذ أن خلق الله الخليقة ، وثّق للآخر حضارة الأول ، ونقل علم المتقدم للمتأخر لولاه لاندثرت نظم وقوانين ، ولضاعت حقوق وأهدرت كرامات وبدّلت حقائق ، ولذهبت مع مهب النسيان فرائد وآداب ولذبلت في عقول المبدعين مشاريع وأفكار ولماتت مع الموت آلام وآمال ، وأفراح وأحزان ، ولضاع تاريخ وأحداث ولاختلط حابلٌ بنابل . ولله درّ ابن المعتز وبديع وصفه يوم أن حبّر وقال : ( القلم مجهزٌّ لجيُوشِ الكَلام ، يخدِمُ الإِرَادةَ ، ولا يملّ الاستِزَادة ، يسكُتُ واقفاً ، و ينطِقُ سائِراً على أرضٍ بياضُها مظلمٌ ،و سوادُها مضيءٌ.ذلك الواعظ الصّامتُ ، و البلِيغُ السّاكتُ . هو التُرجُمانُ عن المشَاعِرِ ، و المُتحدّثُ بلسانِ الأَفكارِ والخواطرِ ، إذا امتطَى صَهوَة البنَانِ ، عبّر عن السّرّ ، وخَوَافي الجنان. و إذا جَرَى مِدَادهُ على الأورَاقِ ، أصبَحت أسيرةً لهُ الأعناق ، وطارَ خبرهُ في الآفاقِ . القلم هو سلاحُ الكاتِبِ يُرشَقُ به مشاعرُ ، وشعائرُ ، وشرائعُ . كم فرّق من جماعاتٍ ، وكم أنزلَ من هامات ، وكم فَضح من نفوسٍ ، وكم أزاحَ القناعَ عن وجوه. هو الأمانة التي تحمّلها صاحبُه ، فكَان بحملها للخَيرِ رَسُولاً ، أو كانَ بحملِها ظلوماً جهولا ) انتهت عبارته . وإن كان القلم كذلك فحريّ على كل من ملك ناصيته ، وامتهن حمله أن يقدره قدره ، ويعطيه حقه ، ويحذر غدره ، وبطشه . فلكل كائن وجهان مختلفان ، وحدّان قاطعان ، ولونان متناقضان . ألا وإن وجه القلم المشرق : كلمة حقّ ولو كانت على النفس ثقيلة . وحدّه الذي معك لاعليك : نصرة ضعيف ولو كان لك عدوا . ولونه الأبيض الفطري أن يكون كل حرف تكتبه أو تنشره تحت سقف الخوف من ملك الملوك ورجائه . إذْ إن روحك رهن منه وأمانة يستردّها إليه متى شاء . فردها أنت على أي خاتمة تشاء . عبدالعزيز العميري [email protected]