في محاولة جادة لهجر قلمي الذي أحب بحثا عن الراحة والهدوء والاستجمام , فوجدت نفسي أتفقد وجوده في حافظتي وبين أوراقي وعلى منضدتي وكأنه جزء لا يتجزأ من كياني وذاتي , فراودني سؤال هل كان من المنطق أن أحن لهذا القلم بعد أن تركته ورحلت مع سبق الإصرار والترصد ؟ أو أن لب المنطق وعقله يقول أنه لا مناص من أن يفرغ العقل والقلب خواطره وتصوراته أو حتى هذيانه على صفحات بيضاء ليصور الماضي ويحلل الحاضر ويخطط للمستقبل. الحنين إلى القلم هو إحساس ينتاب الكاتب أين ما كان وكيف ما كان ؛ فتجده يبحث عن قلمه وورقته في موقف ما كلما جال خاطره في حدث أو فكرة وراق له كتابتها أو الحديث عنها. وهو حنين ليس ببعيد عن ما يشعره الصديق نحو صديقه إن غاب احدهما ولم يلتقيا منذ برهة من الزمن , كما أنه حنين ليس ببعيد عن حاجة الإنسان للتحدث من شخص قريب يشاطره أفكاره وأفراحه وأحزانه. وهنالك عبارات كثيرة تشير إلى مدى مكانة القلم وروعته. ففي مقولة لابن المقفع يصف فيها القلم قائلا : ( القلم بريد القلب يخبر بالخبر وينظر بلا نظر ) , أما ابن أبو داود فيقول : ( القلم سفير العقل ورسوله الأنبل ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل , والقلم الدنيا والآخرة ). وليس كل قلم يقرأ له ؛ فهناك أقلام تستهتر بالعقول ولا ترتقي إلى مستوى القراءة والتأمل , وفي الجانب الآخر توجد أقلام تثير الفضول وتحاكي العقول وتصور الواقع وتصوغ الطموح وترمي إلي المستقبل المأمول. ولعل أجمل ما يصف كلا النوعين هي مقولة سهل بن هارون في وصفه حيث قال : ( القلم أنف الضمير ؛ إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره ) وكأنه أراد إن يقول أن القلم مرآة صاحبه وهو الذي يكشف ما يدور في خاطره ويجول في بواطن ذاكرته. ولم يقسم الله عز وجل بالقلم عبثا ؛ ولم تأتِ الآيات والسور به باطلا , فهو نبراس الخير وموثقه , كما أنه منبع الشر وموقده , ولم ترتقِ الأمم ولم يسجل تأريخها وحضاراتها إلا بالقلم , ولم يبدأ الهجاء والمديح إلا بين زوايا سطور القصائد وبين ثنايا الكلمات التي سطرها القلم. هذا وإن للبيان الذي يدلي به القلم سحرا فريدا في استمالة القلوب والعقول أو تنفيرها نحو موضوع أو فكرة أو شخصية معينة. ومن هنا تأتي أهمية الاستفادة منه وتسخيره على النحو الإيجابي الفعال الذي يتيح لنا الاستمتاع به والرقي بسطوره وكلماته. وقفة لنرتقي : روى الوليد بن مسلم عن أنس بن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح , عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم , ثم خلق النون , وهي الدواة , وذلك قوله : ( ن والقلم ) , ثم قال : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل , أو أجل , أو رزق , أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة , ثم ختم على القلم فلم ينطق , ولا ينطق إلى يوم القيامة , ثم خلق العقل فقال الجبار : ما خلقت خلقا أعجب إلي منك , وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت , ولأنقصنك فيمن أبغضت , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ).