يمكن فرز الأسباب المنتجة للعنف إلى نوعين: الأول: أسباب غير مباشرة وهي متصلة غالباً بالبيئة والظروف المحيطة التي تصنع تهيئة, وتوفر مناخاً ملائماً لانتشار فيروس العنف, واتساع نطاقه. بعض البيئات حاضنة ومؤهلة لإنتاج العنف، أو لاستقباله؛ لأنها تفتقد عنصر (الممانعة). حين لا يكون لدى المرء جواب على أسئلة الفكر المشروعة، سيكون فكره قابلاً لشتى الاتجاهات, وحين لا يكون لديه جواب على أسئلة الحياة المشروعة؛ ستظل حياته رهنا لتقلبات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وحين لا يشعر المرء بالانتماء إلى مجتمعه وأسرته ومحيطه؛ سيبحث عن انتماء بديل، ولن يجد عسراً أن يتخلى عن أهله وناسه، ويضع يده في يد أي قوة تستهدف الإطاحة والتدمير، والشاعر القديم كان يقول: إِذا أَنتَ لَم تَنفَع فَضُرَّ فَإِنَما يُرَجَّى الفَتَى كَيما يَضُرُّ ويَنفَعُ والمرء قد ينتمي فطرة إلى وطن عاش على ثراه، لكن لا ينتمي إلى مؤسسات هذا الوطن، والتي أكبرها (الدولة) باعتبارها مؤسسة المؤسسات, أو أم المؤسسات؛ حتى يشعر بأن هذه المؤسسة الأم بفروعها وتشكلاتها هي لخدمته ومساعدته على تنظيم نفسه وتنظيم الآخرين، وتحقيق الأهداف والطموحات، وتوفير المصالح والخدمات وحماية الفرد والجماعة، وهذا يفتقر إلى : 1- التوعية المتوازنة للمواطن بحقوقه وواجباته. 2- عدم المصادرة، فليست العلاقة هي دائماً علاقة أبوية محضة، بل حتى حين تكون علاقة أبوية، فالأب الحصيف لا يستعمل لغة الإملاء والفرض أبداً، بل يُشعر الابن بدوره في العملية الحياتية, وأن له رأياً معتبراً، وحين يكون الرأي غير معتبر، فثمت حوار وجدل هادئ، وفرص متنوعة، قبل أن تصل الأمور إلى القطيعة والتهيؤ للحرب والمواجهة. 3- اعتماد مبدأ التنظيم لجهود الأفراد, وليس الحجر أو المنع، فإن الإنسان بطبعه فعّال وهمام، كما في الحديث النبوي: « أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ » كما عند أبي داود والنسائي وغيرهما, وأصله في مسلم. فالمؤسسة مهمتها تنظيم جهود الناس, وليس إلغاءها أو حجبها, ومن الممكن أن تتحول الطاقات المختلفة ضمن مؤسسات المجتمع المدني إلى وسائل مساعدة للمؤسسة الأم (الدولة) في تحقيق المصالح, وتوفير الخدمات, ومواجهة الطوارئ والأزمات. أما حين يُحجر عليها وتلاحق وتطارد، فمنها ما يخمل ويخمد، ويكون ((خلية نائمة)) قابلة للانبعاث، ومنها ما يتمرّد ويُجند نفسه أو يُجنده غيره ضمن ((خلية يقظة)). 4- تفعيل مبدأ المصالح العامة, والشفافية في الممارسة, بما يجعل أفراد المجتمع شركاء في السراء والضراء، يتقاسمون لقمة العيش بينهم، فلا يُطالبون بالمستحيل، ولا يتشاحّون على المتاح. إن الاندماج في مشروع التنمية الشاملة والتنمية المستدامة في شؤون الحياة، ولكل الأجيال الحاضرة والمقبلة، يمكن أن يكون هدفاً يتمحور الناس حوله ويضمون جهودهم من أجله. وتحت هذا البند يمكن أن تجري مصالحات جادة بين الشعوب والحكومات، تعتني بالحاضر والمستقبل أكثر من عنايتها بالماضي, وتمنح فرصة لمن مر بتجربة أن ينتقل منها إلى سواها, وتفلح في تغيير قناعات المتعاطفين والمترددين والشامتين والمتفرجين إلى قناعات إيجابية، تؤمن بالمجتمع ومؤسساته، وتندمج في مشروعاته، وتعد نفسها جزءاً منه لا يتجزأ. وهذه خطوة عظيمة، يصح أنها من \"السهل الممتنع\". لأن بعض المنحازين لفكر منحرف هم مثل المقاتل الذي أصبعه على الزناد، يحسب كل مقالة هي حيلة أو خدعة، فإذا أفلح المجتمع بمؤسساته أن ينزع عنه هذا الإحساس، سقطت البندقية من يده تلقائياً. وتحت هذا البند يمكن تخفيف التوتر بين المجموعات الثقافية والإثنية والعقدية داخل المجتمع الواحد، والتوقف عن سياسة تفعيل الصراع بينها, بل يقوم مبدأ (التحاجز) أو الكف والموادعة. وضمن هذا يمكن إقامة الحوار الهادئ الموضوعي، مع الحفاظ على حقوق الأفراد والمجموعات، وتشجيع ظهور الروح الإيجابية المتقبلة للاختلاف والمؤسسة لحوارات يسود فيها الأدب الراقي والخلق الكريم, والبحث عن المعذرة وحسن الظن، بدلاً من التهارش والتطاحن والاتهام والتحقير. إن سيادة مبدأ الصراع داخل المجتمعات تحت أي ذريعة لهو مدعاة إلى قابلية العنف، والعرب تقول: فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام والعنف اللفظي؛ صدر في جريدة أو كتاب أو قناة أو إذاعة أو مجلس؛ هو تمهيد لما وراءه، خاصة حين يكون ظاهرة شائعة أو منظمة أو مدعومة، أما حين يكون شذوذاً واستئثاراً وعملاً فوضوياً على الصعيد العام ؛ فالخطب أهون وأيسر. ونحن نجد في محكم التنزيل قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(البقرة: من الآية83)، وكان ابن عباس يقول: \" لو قال لي فرعون : بارك الله فيك ، لقلت: وفيك\" . رواه البخاري في الأدب المفرد وسنده على شرط مسلم. إن هذا اللون من الأسباب، الأسباب غير المباشرة، المتعلقة بالبيئة القابلة والمؤهلة لإنتاج العنف أو تقبله أو دعمه، واسع جداً , ويمكن أن يكون ثمت حديث مستفيض عن التاريخ وعنفه، والجغرافيا وعنفها، والمجتمع، والثقافة... وما تم عرضه ليس سوى أنموذج لهذا اللون. وللحديث صلة إن شاء الله الشيخ الدكتور / سلمان العودة