الرياضة لم تعد ترفاً أو هامشاً وإنما غدت من صميم التركيبة الاجتماعية، بحسب أمين الخولي في كتابه (الرياضة والمجتمع) ولا غرابة أن تكون \"ضربة زيدان\" التي صرفها للمدافع الإيطالي من ضمن حيّز البحوث الاجتماعية، وأن تتحول تلك الضربة إلى لزمة ثقافية أعادت إلى الأذهان الموقف الاجتماعي الأوربي من \"المهاجرين\" عامة، ولا غرابة أن يخصص أحد كبار الباحثين في الفلسفة العربية وأعني به \"عبدالسلام بنعبدالعالي\" في كتابيه (منطق الخلل) و (ضد الراهن) بعض المقالات للتحليل الفلسفي للرياضة بوصفها ظاهرة تدخل في عمق البحث الانثربولوجي. إلا أن الوسط الرياضي عندنا لا يزال متقهقراً، وذلك التقهقر يتجلى في الآتي: -البيئة التي تحتضن الإبداع لها مواصفات ومقاييس، من أبرزها الحرية، ولا تختلف البيئة التي نحتاجها لإخراج رياضي ناجح، عن البيئة التي نحتاجها لإنجاب فيزيائي ناجح، ذلك أن التربة التي تمكّن براعم الإبداع من النمو ذات أبعاد واحدة. والبيئات المتخلفة لا تنتج الرياضيين الناجحين، صحيح أن البرازيل مثلاً أو الارجنتين هما أكثر الدول إنجاباً للظاهرات الكروية الفريدة، إلا أن تلك البيئات لديها الحد المعقول من الحرية الفكرية لممارسة الموهبة فعلاً وتمريناً بعيداً عن المؤثرات الثقافية المثبطة. أضف إلى ذلك أن أوربا التي تعتبر مقصد المحترفين في العالم لم تسيطر على اللاعب بالمال فحسب، وإنما تهبه مجالاً من التدريب والصقل، وليس صدفة أن تتطور مستويات اللاعبين الذين يرحلون من بلدانهم إليها. فهي تمكن الرياضي من عيش الجو الثقافي كاملاً، وتساعده على فهم الرياضة جملة وتفصيلاً. -بعد هزيمة المنتخب الساحقة في كأس العالم السابق، سأل صحفي سعودي أحد مدافعي المنتخب عن سبب الخروج، فقال غاضباً: \"إن الصحافيين الذين يكتبون ضدنا، يحتجون على القضاء والقدر، وهذا أمر خطير\" هرعت إلى آخر الخبر مباشرة لأتأكد من عدم وصول ذلك اللاعب إلى مرحلة \"تكفير النقّاد\" وبحمد الله لم أجد شيئاً من هذا، وحينما سأل صحفي غربي، أحد المدافعين في المنتخب أيضاً عن سبب هزيمة المنتخب من أوكرانيا؟ لم يجب اللاعب على ذلك الصحافي، وحينما سأله الصحافي مرة أخرى: هل ثقافتكم لم تتوافق مع ما شاهدتموه في الملعب من اختلاط وغيره؟ قال اللاعب: لاتعليق. وشنت صحفنا حملة قوية على ذلك الصحافي الذي كان يسأل فقط، ولم يكن بالمناسبة مدعوماً من الموساد. تلك المواقف، تسهّل علينا ربط الثقافة بالرياضة، بل تسهل جعل الإبداع الرياضي جزءاً من بنية ثقافية وتعليمية متناسلة وطويلة، لم تعد الرياضة تحريك جسد أو تمارين عضلية، وإنما دخل الجانب الثقافي في عصب حركتها. -الرياضة لها علاقة وثيقة بتدريب العقل وتمرينه، وجزء منها يحتاج إلى عبقرية وذكاء. فإيمانويل كانط الفيلسوف الألماني كان مغرماً بلعبة \"البلياردو\" والفيلسوف الألماني مارتن هيدغر-حسب مايذكر عنه تلميذه هانز جورج غادامير- كان مفتوناً بكرة الطائرة ورياضة التزلج، وكانت بالنسبة لهم بقدر ما هي تسلية وتزجية وقت، كانت مساحة للتفكير الحرّ خارج سراديب المكتبات، وفرصة لتوسيع زوايا العقل ومساحات التركيز، خاصةً حينما تكون تلك الألعاب تحتاج إلى ذكاء وتخطيط. -إذا علمنا كل ما مضى، فسنصاب بالإحباط، ذلك أن الرياضة جزء لا يتجزأ من الثقافة والتكوين الاجتماعي، فالمحتويات التي يجرّها اللاعب معه داخل الملعب، من رؤية للآخر، ومن تصور للجمهور، ومن خلفيات ثقافية وفكرية تساهم في تسيير لعبه ومستواه نحو زوايا لا تعجب أحداً، خاصةً وأن تصريحات اللاعبين تكشف عن تكوين ثقافي \"أمّي\" لا يحسدون عليه، هذا في الوقت الذي نرى فيه اللاعب الأوربي-غالباً- يمارس ويتابع الفنون كلها، لأن اللاعب الأوربي ينظر إلى نفسه بوصفه فناناً لا بطلاً قومياً كما ينظر بعض أفراد منتخبنا إلى أنفسهم، ولو رأيتهم في المسابح والملاعب يراؤون الناس انتشاءً ونرجسيةً وكأنهم سيأتون بما لم يأت به الأوائل، بينما لا يجيدون سوى الهزائم المتلاحقة والمتكررة. إن هذا المستوى المحبط الذي يتكرر كل سنة بحاجة إلى اعتراف صريح وواضح بعقم ما ينخر في الجوهر التكويني للرياضي، وأنها تحتاج إلى نقد وتصحيح جذري بشكل يمسّ كافة تمفصلات اللعب ومكونات اللاعب ثقافياً وفكرياً، كما تحتاج إلى رفع مستوى الذوق الفني للاعب، وتعوديه على التصريحات الجيدة والمتزنة. بعيداً عن الهراء اللفظي الذي يخرج من أفواه اللاعبين بعد كل مباراة. إن إمكانية خروج لاعب بحجم زيدان أو مارادونا في السعودية مثل إمكانية خروج نيوتن أو انشتاين سعودي! وحينما نتصور حجم المتطلبات التي نحتاجها لإنبات أمثال أولئك العباقرة نعرف مستوى الخلل الثقافي والرياضي الذي نعيشه. فهد بن سليمان الشقيران. [email protected]