من بريدة إلى برمنجهام! على صعيد المدن وهبني الرّحمن كرامة عزّ نظيرها، إنّه – جلّ شأنه – يسّر لي من مدني يُسرا، وجعل لي ملامحها بُشرى، ولك أن تتصوّر أن تُولد في مدينة كبريدة، هذه المدينة التي تمتاز بالحريّة، وتكتسي باليباس، كأيّ مدينة تقبع في عمق الصّحراء، ليس لأهلها وقت إلا لأداء الصّلاة وممارسة التّجارة، كما هو تعبير المفكّر أمين الرّيحاني. خرج الطّفل إلى الدّنيا، فقيل له إنّ أباك مات قبل شهرين من ولادتك، لذا عليك أن تُلغي كلمة (يا أبي) من قاموسك الألثغ.. كبر الفتى وعرف أنّ أباه كان الصّديق الأثير لدى فضيلة العلامة عبدالله بن حميد – رحمه الله – الذي تولّى دفنه، وتكفّل بإطعام أهل العزاء ذات الأيّام الثلاثة، وسأل الفتى عن منزله الذي سقط فيه رأسه، فقيل له إنّه بيع، وقد يدخل في توسعة جامع بريدة الكبير، وفي هذه اللّحظة رحلت الأسرة إلى دار غير كلّ الدّيار، بل إلى مدينة نور تتضاءل أمامها كلّ الأنوار! إنّها السّنة السّابعة من عمر الفتى، والمكان حارة يقال لها حارة (الأحامدة)، وفي رواية أخرى (السيح)، في مدينة هي أكبر من الجغرافيا، وأعظم من التّاريخ، إنّها يثرب – على ساكن ثراها أفضل صلاة وأطهر سلام -. وللقارئ الكريم يمكن القول إنّه من العسير الإلمام بفضائل المدينة المنيرة، وكيف أحشر في مقال ما عجزت عن ضمّه عشرات الكتب، لذا تبدو المدينة بهذا التّنوّع الثّقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي تمنحه لساكنها.. فالفتى يخرج من حارة المغاربة ليدخل في حارة التّوانسة، وتستقبله حارة الجزائريين، لتودّعه أحياء المصريين، ماراً في أحياء الجالية الموريتانيّة، تلك الجالية التي أبرزت كوكبة من الحفظة، وهي الفئة التي عرفت فيما بعد ب(الشّناقطة). ليس هذا فقط بل تكاد تكون المدينة لوحة بشريّة، ذات فسيفساء لونيّة تضمّ كلّ الأطياف البشريّة الموجودة في الكرة الأرضيّة. آه على هذه المدينة المنيرة، وآه منها،وآه عليها حين تتعلّم فكّ الحرف في سنيّك الأولى في مدارسها، ثمّ تختم دراستك الجامعية متخرّجاً من جامعتها! آه على المدينة، وآه على جامعتها الإسلاميّة، كيف للمرء أن ينسى ذلك الباحث الأصيل الدكتور محمد يعقوب تركستاني، الصّديق الشّخصي لعملاق اللّغة العالم ابن جنّي؟! وكيف لتلميذ كان مسحوراً بلغته أن ينسى أستاذ النّحو الفيلسوف الدكتور علي سلطان الحكمي، ذاك الذي كلماته قصائد وموشّحات وجمله أشعارومقطوعات!، وكيف أنسى الدكتور عمر باحاذق وهو يقول: (الحداثة مداسة)! بل كيف أنسى أستاذ القراءات وعضو لجنة طباعة المصحف الشّريف بالمدينة المنوّرة الذي كان يدرسنا القرآن، كيف أنساه وهو \"يمصع\" أذني طالباً مني أن أمدّ الحرف ستّ حركات! بعدها استدار الزّمان لتحملني الأقدار إلى مكّة المكرّمة، لدراسة أخرى، كانت العلاقة بين المدينة وبيني علاقة مكسوّة بالاحترام الرّسمي، والتّقديس الديني، كنت اعتقد أنّها مدينة لا تصلح إلا للمناسك وكفى.. كان هذا هو الظنّ، ولا يفلح الظّنّ حيث أتى. آه من مكّة هذه.. إنّها مدينة في ظاهرها الخشونة والجبال والتّنافر والخصام، ولكن في باطنها الحبّ واللّيونة والسّلام والوئام، إنّها ليست مدينة النّظرة الأولى، ولكن لمن أراد أن يعشقها عليه أن يسهر على تلمّس أمنها، وطهرها وكمّية الصّفاء في مفاصلها! كيف للرجل يحبّ المروءة أن ينكر فضل مكّة على العالمين، وهي التي يبحث عن جهتها المصلّون في عبادتهم، ناظرين إلى جمال كعبتها، آه من قول الشّاعر المسيحي الكبيرسعيد عقل: غنّيتُ مكّةَ أهلها الصّيدا والعيدُ يملأ أضلعي عيدا! كيف لا تُعشق، ومكّة هي ملاذ الخائفين، وملجأ المحرومين، وكاتب السُّطور أحدهم، حين لم يجد قبولاً في كلّ الجهات الأربع، فتحت جامعة (أم القرى) قلبها قبل مقاعدها لهذا \"التّائه المسكين\"، ولم يكن زاده وواستطه إلا الثّقة بالله وحُسن الظّنّ بالنّاس.. كيف أنسى تلك الجامعة وهي التي جعلتني أتعرّف على الدكتور الشّهم صالح السّيف ود سليمان العائد وبقيّة النّاس الذين كانت أفعالهم تسبق أقوالهم.. كيف أنسى جامعة منحتني فرصة لأجلس طالباً بين يدي كوكبة من خيرة أهل العلم والعقل من أمثال الدكاترة عبدالله باقازي ومريسي الحارثي ومحمود زيني وحسن الوراكلي وصالح بدوي والأثير لدى النّفس محمود فيّاض وصاحب الشّيخ عبدالقادر الجرجاني الملاحق له الدكتور محمد أبوموسى الذي يضيع لو ضاع كتابه (دلائل الإعجاز)! طويت الدّراسة الجامعيّة وما بعدها معترضاً على مقولة الفيلسوف تشيخوف عندما قال: (إنّ الجامعة تطور شتّى الإمكانيات، ومن ضمنها \"الغباء\"). ها هو العام 1417ه يدخل، لتبدأ رحلة التّعرّف على جدّة، بالله ماذا يمكن أن يقال عن مدينة هي الحدّ الفاصل بين الجنون والعبقريّة، جدّة حصّة المحرومين من النّوم، حين تمنحهم ليلاً عامراً حتّى مطلع الفجر! جدّة هذه المدينة التي لا تنام حتّى تذهب إلى البحر وترمي همومها، لتعود في الصّباح بوجه طفولي كأنّه ضحكة طالب مدرسة خرج لتوّه منها في يوم الأربعاء ضاحكاً لأنّ الأربعاء نهاية العناء الدّراسي الأسبوعي. جدة – ضم الجيم - التي أثارت البشر حتى في اسمها،ولكن القلب يميل الى الضم ،تعاضدا مع شيخنا الكبير/عبدالقدوس الانصاري صاحب كتاب(الأقوال المعدة في حتمية ضم جيم جدة) جدّة التي وهبتنا الإتّحاد، هذا السّحر الأصفر الذي يُسهر الملايين ويبكيهم ويسعدهم!! جدّة التي أعطتنا جريدة \"المدينة\" بكلّ عامليها، جدّة التي زارها قروي من الجنوب فلمّا رآها بهت وانبهر ثمّ قال قولته المشهورة: (والله لن أرجع إلى السّعوديّة)!! فسكن فيها ويظن لانبهاره بجمالها بأنّها خارج \"الإطار المحلي\"! جدّة التي أعطتني محمّد سعيد طيّب وعبدالرحمن المعمّر وعدنان اليافي وأحمد المغربي وأحمد عدنان ومئات الأصدقاء الذين نادراً ما يجود الزّمان بمثلهم. جدّة التي منحتنا مقهى \"بريك تايم\" وحارة المظلوم وشارع المكرونة والنزلة الشرقية وبين هذه المسافات من مساحة حضاريّة تشكّل مادة خصبة لدراسي علم الاجتماع.. بعد كل هذا الإكرام من المولى المفضال رب الأنام، حين تتقاسم الفتى مدن عظيمة، فمن حرم إلى حرم، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن تنوّع إلى تنوّع، ها هو الحال يستقرّبه في مدينة برمنجهام البريطانيّة، وهذه المدينة التي تُصنّف \"عالمياً\" بأنّها من المدن ذات الثّقافات المتعدّدة، فأنت تجد الإنجليزي بجوار الباكستاني، ويتّصل بينهما مواطن من \"جامايكا\" وعلى يمين هؤلاء إنجليزي من أصل صومالي، ومن خلفهم ثانٍ من أصل ياباني وثالث من أصل صيني ورابع من بلاد الهند. برمنجهام مدينة أحسنت بي الظّنّ، حين أساء بي الظّنّ غيرها، إنّها فتحت ذراعيها بعد قلبها لاستقبال هذا \"التّائه المسكين\" ليبدأ معها رحلة الألف ميل التي ما زال في أميالها الأولى، ومع دكتور هو مثال للفضل اسمه طاهر عبّاس، الذي بقي من أحلامه حتّى هذه اللّحظة أن يتعلّم العربيّة! كما إنّه يعاني من حملة شرسة من بعض المسلمين هنا نظراً لبعض آرائه وطروحاته التي تصادم بعض القناعات، إنّه يطرحها كلّ أسبوع في برنامجه التّلفزيوني المسمّى \"السّياسة اليوم\" في سكاي نيوز! تُرى – سيّدي القارئ – من فرد سكن واستقرّ وأحبّ وعشق كلّ هذه المدن السّابقة، هل يحتاج إلى بقيّة العالم؟ أو هل تهمّه \"مدن الآخرين\" التي كتب عنها الشّاعر أحمد عبدالمعطي حجازي؟! أحمد عبدالرحمن العرفج [email protected]