إن رمضان فرصة عظيمة للمسلمين فهو يَأْتِي شَهْرَاً واحداً في السنة، فقط مثل الحج يجيء أياماً معدودات؛ لذا يعتبر من عند الله تعليماً لنا كيف نعيشه من غير إفراط ولا تفريط. إن رمضان هو حياة كاملة في شهر واحد؛ ليكون زاداً لنا للسنة التي تتخللها مواسم طاعات متوالية ترقع تقصيرنا، وتجبر كسر أَعْمَالنا. لكن السؤال الذي يجب علينا الوقوف أمامه كيف أعيش رمضان من غير إفراط ولا تفريط؟ لما نقرأ قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلك تتقون) تكون الإجَابَة عَنْ سؤالنا: التقوى هي من تجعلنا نعيش رمضان من غير إفراط ولا تفريط في كل علاقاتنا ومعناها: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بِفِعْلِ أوامره واجتناب نواهيه. فالتقوى في علاقتنا مع الله تعالى تجعلنا نعيش روحانية رمضان لتكون روحانية لبقية العام. نعم هذه الروحانية تتأرجح بعد رمضان صعوداً وارتفاعاً لكن تظل مواسم الخير في شهور العام تعيدنا للتقوى من جديد تعيدنا لخزينة رمضان. وهنا نتناقش بهدوء كيف أحقق ذلك: نؤمن جَمِيعَاً أن حياة المسلم كلها عبادة حتى آداب دخوله الحمام، وآداب الجماع، وآداب لبس الحذاء متى ما التزم فيها بالإسلام ونوى العمل به لذا رمضان يعني لنا حياة العبادة نتقلب في أفيائها بالفقه المعتبر ومن أمثلة ذلك: قيام الزوج أو الابن أو الزوجة والابنة بحقوق الوالدين من زيارة وتطبيب ومساعدة في عمل أو إشراف على علاجهم أو مُتَابَعَة لصحتهم أو إدخالهم للحمام أو تنظيف أبدانهم أو مؤانستهم كل هو عبادة نؤجر عليها. وهنا أتأمل بألم حال كثير ممن نتوسم فيهم الخير ممن اعتقد أن رمضان فرصة للاعتكاف وتلاوة القرآن وتفطير الصائمين متجاهلاً حال والديه فيعتبر الجلوس معهم لأداء متطلباتهم تضييعاً لرمضان، ويرى أن توفير خادمة وسائق هو أقصى البر وأعلاه ويتفضل على والديه باتصال من الحرم أو المسجد بين فينة وأخرى إن لم يخبرهم من البداية أنه سيقفل جواله تفرغاً للعبادة. وننظر لمن نتوسم فيهن الخير تعمل كالرجل تزاحم المساجد والحرمين تاركة أباً مَرِيضاً وأماً قد هدتها السنون لخادمة لن ترحمها مثلها. ثم تعلنها مدوية أنا وفرت لهما الخادمة والسائق وطوال السنة معهما ورمضان أَيَّام فقط. بل تعتكف العشر الأواخر في مسجد أو حرم تاركة الوالدين. فمن أولى؟! أليس جلوسك أيها الابن والابنة معهما عبادة!! والصلاة بجوارهما نعمة تحصل بذلك على متَابَعَتهما والصلاة وتلاوة القرآن وقت نومهما أو هدوئهما؟ وكذا زوجة تركت زوجاً مَرِيضاً يحتاج إليها لتقوم على خدمته خادمة أو ابنة وهي تتفرغ في رمضان للصلاة في المسجد والاعتكاف في آخره من العصر حتى بعد الفجر فمن أولى برعايتك؟ ولم لا نجمع بين الحسنيين؟ وننظر لأم تركت بيتها وأولادها صغاراً وكباراً لتصلي التراويح في حرم أو مسجد وتعتكف العشر الأواخر تاركة الأمانة العظمى التي ستسأل عنها وهي الواجب وما سبق سنة، تترك هذه الأمانة بيد خادمة تحتاج للتربية والتعليم، وبيد أهل قد يخالفونها في التربية، وبيد إخوة وأخوات سينشغلون عن الصغار بل قد يحدث إيذاء بدني وجنسي في غياب الأم المَسْؤُولة أمام الله فلماذا نفرط بالواجب؟ ونجد أباً يترك زوجة مع أطفال صغار بَعِيدَاً عن أهل يرعونهم بِحُجَّة التعبد والاعتكاف، وأن الجمع بين حقوق الأسرة والتعبد في رمضان يعتبر عنده تضييعاً لرمضان. ونجد أمهات يعتبرن تجهيز طعام لأسرهن صغاراً وكباراً من غير إسراف ولا مخيلة تضييعاً لرمضان. ونجد من يعتبر التواصل مع الأهل والأرحام في زيارات قصيرة الوقت نقية من الغيبة وغيرها تضييعاً لرمضان. ونجد في المقابل: أمهات وآباءً لا هم لهم في رمضان إلا الخروج للأسواق والمُنْتَزَهات، والإفطار في المطاعم والمجمعات التجارية وعلى البحر، ومتابعة القنوات والمسابقات فأي تفريط وتضييع لرمضان لنفسه وأسرته؟! ونجد أمهات لا هم لهن إلا التفكير في أصناف الطعام، والاستغراق في ذلك من بعد الظهر إلى قبيل المغرب، ثم أكل ونوم ثم استعداد ضخم للسحور، ثم أكل ونوم أليس هذا تضييعاً لرمضان؟! ونجد أسراً تجعل من رمضان ميداناً رحباً للزيارات المطولة والدعوات المتكررة فاليوم دعوة عند الأخت، وغَدَاً ابنة الأخت، وبعد غد الأخ…… من الفطور إلى السحور، أو للفطور والعشاء، ونجد الساعات والأيام تمضي ورمضان ينتهي ولم تنتهِ المناسبات أليس في ذلك تضييع لرمضان؟! لنجعل في رمضان دعوة واحدة للعائلة على عشاء مثلاً مع برنامج توعوي ودعوي ولو عبر عرض على جهاز الحاسب أو عبر درس على قناة محافظة يكفي ربة المنزل مُهِمَّة الإلقاء فيتم الجمع بين صلة الرحم وطاعة رب الأسرة وتقديم توعية. لماذا لا نتفق على ترك عادة الدعوات الرمضانية على الفطور وغيره ونجعلها في العيد؟ إن هذه العادة قتلت الوقت والبدن، وصارت مجلبة للمشاكل والتفاخر. وتفطير الصائمين يكون عبر قنوات متعددة داخل البلاد وخارجها. يا مسلمون، رمضان بالتقوى يكون بَعِيدَاً عن تلك الصورتين المتقابلتين. يا مسلمة، صومي وصلي وأنت تَرْعَين رعيتك من أب، أَوْ أم في أمس الحاجة لك، أو أولاد أنت مكلفة برعايتهم. صلي وهم بجوارك في بيتك لتنالي الأجر. ولنتأمل يا مسلمة، كيف لو أوجب الله علينا الذهب للجماعة والاعتكاف والجمع ماذا سيكون حال بيوتنا؟! إنه الرحيم فلنحمد الله. أيها الصائم والصائمة، لا تظنا أن قيامكما بحقوق من استرعاكما الله إياهم من أم، وأب، وأخوات، وزوجة، وأولاد، هو تضييع لرمضان بل هو عبادة تؤجران عليها. ولنتذكر أن الخلوة في رمضان نعمة، لكن لا ننسى حقوق من ولانا الله أمرهم فهذه نعمة أخرى نؤجر عليها. وخِتَامَاً: رمضان شهر حبيب فهل نحبه كما يجب؟ اللهم اجعلنا فيه من السابقين بالخيرات والمتقين، وارزقنا فيه صلاح النيات والأقوال والأَعْمَال والأخلاق. آمين.