كما كانت هذه الحياة الدنيا غيباً بالنسبة لنا ونحنُ أجنّةٌ في بطون أمهاتنا، فكذلك عالم ما وراء الموت غيبٌ بالنسبة لنا ونحن في هذه الحياة الدنيا .. كم هو جديرٌ بالذكر أن يُعاود أحدنا النظر في أرشيفِ حسابات العمر .. ليظفرَ بحسنِ الختام بإذن ربِّه، حينما يُنادى به للرحيل من هذه الدار ..! .. إن ما سنستعرِضهُ الآن على ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس كتلك الأفلام المرعبة التي يستهوي مشاهدتها الكثيرون من شباب وفتياتِ أمةِ الإسلام!، بل تفوقُ تصور البشر بمدىً لا يعلمهُ إلا الله تعالى. والفرق الجوهر بينها وبين تلك الهاويات الهوليوودية؛ أن المَشَاهد فيها حقيقية، والألمُ فيها على أشُدِّه والعياذُ بالله .. ولا مقارنة البتة .. ولكن بالمثال يتضحُ المقال ..! .. فإلى الحديثِ الشريف: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – يعني – مما يكثر أن يقول لأصحابه: ( هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا ). قال: فيقص عليه من شاء اللهُ أن يقص، وإنه قال ذات غداةٍ: ( إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلِق، وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجلٍ مضطجعٍ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصخرةٍ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغُ رأسَه، فيتدَهْدَهُ الحجرُ ها هنا، فيتبع الحجرَ فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحَّ رأسُه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به مرةَ الأولى، قال: قلتُ لهما: سبحان اللهِ ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ مستلقٍ لقفاه، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بكَلُّوبٍ من حديدٍ، وإذا هو يأتي أحدٌ شقيٌّ وجهِه فيشرشرُ شِدقُه إلى قفاهُ، ومنخرُه إلى قفاهُ، وعينُه إلى قفاهُ – قال: وربما قال أبو رجاء: فيشقُّ – قال: ثم يتحولُ إلى الجانبِ الآخرِ فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأولِ، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانبُ كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرةَ الأولى، قال: قلتُ: سبحان اللهِ ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، فانطلقنا، فأتينا على مثلِ التنُّورِ – قال: وأحسب أنه كان يقول – فإذا فيه لغطٌ وأصواتٌ، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ، وإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفلَ منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهبُ ضَوضَوا، قال: قلتُ لهما: ما هؤلاءِ؟ قال: قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهرٍ – حسبت أنه كان يقول – أحمرُ مثلُ الدمِ، وإذا في النهر رجلٌ سابحٌ يسبح، وإذا على شطِّ النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارةٌ كثيرةٌ، وإذا ذلك السابحُ يسبَح ما يسبحُ، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارةَ، فيفغر له فاهُ فيلْقمْه حجرًا فينطلق يسبَحُ، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغَرَ له فاهُ فألقمَه حجرًا، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ كريهِ المرآةِ، كأكره ما أنت راءٍ رجلًا مرآةً، فإذا عنده نارٌ يحشُّها ويسعى حولها، قال: قلتُ لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، فانطلقنا، فأتينا على روضةٍ معتمةٍ، فيها من كل لونِ الربيعِ، وإذا بين ظهري الروضةِ رجلٌ طويلٌ، لا أكاد أرى رأسَه طولًا في السماء، وإذا حولَ الرجلِ من أكثر وِلدانٍ رأيتُهم قطُّ، قال: قلتُ لهما: ما هذا ما هؤلاءِ؟ قال: قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، قال: فانطلَقْنا فانتهينا إلى روضةٍ عظيمةٍ، لم أر روضةً قطُّ أعظمَ منها ولا أحسنَ، قال: قالا لي: ارقَ فيها، قال: فارتقَينا فيها، فانتهينا إلى مدينةٍ مبنيةٍ بلبِنِ ذهبٍ ولبِنِ فضةٍ، فأتينا بابَ المدينةِ فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجالٌ شطرٌ من خلقِهم كأحسنِ ما أنت راءٍ، وشطرٌ كأقبحِ ما أنت راءٍ، قال : قالا لهم: اذهبوا فقُعوا في ذلك النهرِ، قال: وإذا نهرٌ معترضٌ يجري كأن ماءَه المحضُ في البياضِ، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أحسنِ صورةٍ، قال: قالا لي: هذه جنةُ عدنٍ وهذاك منزلُك، قال: فسمَا بصري صعَدًا، فإذا قصرٌ مثلُ الربابةِ البيضاءَ، قال: قالا لي: هذاك منزلُك، قال: قلتُ لهما: بارك اللهُ فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخلُه، قال: قلتُ لهما: فإني قد رأيتُ منذ الليلةِ عجبًا، فما هذا الذي رأيتُ؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجلُ الأولُ الذي أتيتَ عليه يثلغُ رأسُه بالحجر، فإنه الرجلُ يأخذ القرآنَ فيرفضه وينام عن الصلاةِ المكتوبةِ، وأما الرجلُ الذي أتيت عليه، يشرشَر شدقُه إلى قفاه، ومنخرُه إلى قفاه، وعينُه إلى قفاه، فإنه الرجلُ يغدو من بيته، فيكذب الكذبةَ تبلغ الآفاقَ، وأما الرجالُ والنساءُ العراةُ الذين في مثل بناء التنورِ، فإنهم الزناةُ والزواني، وأما الرجلُ الذي أتيت عليه يسبَحُ في النهرِ ويلقَم الحجارةَ، فإنه آكلُ الربا، وأما الرجلُ الكريهِ المرآةِ، الذي عند النارِ يحشُّها ويسعى حولها، فإنه مالكٌ خازنُ جهنمَ، وأما الرجلُ الطويلُ الذي في الروضةِ فإنه إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأما الوِلدانُ الذين حوله فكل مولودٍ مات على الفطرةِ ). قال: فقال بعض المسلمين: يا رسولَ اللهِ، وأولادُ المشركين؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ( وأولادُ المشركين، وأما القومُ الذين كانوا شطرًا منهم حسنٌ وشطرًا منهم قبيحٌ، فإنهم قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا، تجاوز اللهُ عنهم )".[1] – بعض مشاهد الحديث التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم: المشهدُ الأول؛ يصوّر عذاب من يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة. فهل تخيَّل مفرطٌ في صلاته حجم الكبيرة التي هو عليها؟!. وهل تصوَّر المعرض عن التعاليم والأوامر الربانية في كتاب الله حجم ما اقترف من جُرم؟!. هل تصوَّر أحدنا حجم ذلك الألم والعذاب، فلا مسكنات ولا مضادات حيوية ولا ضمادات!، حيثُ الألم والعذاب مقصودان على سبيلِ العقوبة .. أجربت جرحاً صغيراً في يدك، ومكابدتك لآلآمه. وانتظارك بُرأهُ بفارغ الصبر ليزول الألم؟!. فهذا ثلغٌ – شدخٌ –، للرأس من علوِ الواقفِ الذي اللهُ أعلمُ بعظمةِ خِلقته، ثم ما يلبثُ الرأس يكابد آلامه حتى الالتئام بينما ذهب الرجل ليأتي بالحجرِ المتدحرج. إنهُ ألمٌ لا يُقارن بألم صداعِ الشقيقة في أوجِ النوبة وذروتها .. بل ولا انفجار أوعية الرأس الدموية جرَّاء ذلك الألم الشديد ..! .. إنهُ التئامٌ بعد تحطُّمٍ وتهشُّم، وقوةُ الضارب وارتفاعه وصلادةُ الصخر، عوامل تزيدُ من العذاب. ناهيك عن تكرار ذلك مرارا .. وحلولُ الغضب الإلهي على من اقترف شيئاً من ذلك .. أشدُ وأعظم .. – نسأل الله رضوانه – .. هذا حال من أخذ القرآن ثم رفضه، فكيف بمن لم يأخذه ولم يتعلمه ومع ذلك يرفضُهُ ويعارضهُ بعقلهِ أو بنظم البشر الوضعية؟!، فينادي بمختلف التطبيقات الحياتية التي تعارض كتاب الله جل وعلا وشريعته؟!. أولئك من وصفهم الله في كتابه وصفاً دقيقاً: ) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (، ولو صدق إيمانهم بالآخرة لأحسنوا أدباً مع ربهم جل وعلا!. المشهد الثاني؛ مشهدُ المتكلِّم بكل ما يسمع!، رعاة الإشاعات والقيل والقال، أولي الكذب والبهتان والولوغ في أعراض المسلمين .. هل عانَيْتَ في أحد أيام الصيف جفافاً في الشفتين فتألمتَ لتشققاتٍ يسيرة حدثت جرَّاء ذلك الجفاف؟!. تُرى كيف كان مقدارُ الألم؟! .. كيف بحياةِ الكاذب حينما يصيرُ إلى عالم البرزخ؟!. كلوبٌ من حديد يُشقُ به جانب الفم شقاً، ثم يُفعلُ بالجانب الآخر مثل ذلك، فيعود الشآقُ إلى الشق الأول وإذ به قد التئم، فيُعَادُ شقه مرة أخرى، وهكذا دواليك .. لو كان ذلك بأداةٍ أخرى غير الحديد لكأن مؤلماً، فكيف به كُلوبٌ من حديد أُعِدَّ لذلك النوع من التعذيب؟!. الكُلوب: حَديدةٌ مَعطوفةُ الرَّأسِ يُعَلَّقُ عليها اللَّحمُ، فيُدخِله في "شِدقِهِ" فيقطعهُ حتى يصل قفاه – رحماك يا رب -. مثل هذه الصورة فوق تصور وخيال البشر!. فهلّا حفظنا الألسُن؟!. قال صلى الله عليه وسلم: "احفَظْ لسانَك ثَكَلَتْك أمُّك يامعاذُ!، و هل يَكبُّ الناسَ على و جوهِهم إلا ألسنتُهم؟".[2] المشهدُ الثالث؛ هي عقوبة تلك العلاقات المحرمة بحسب ميل الفِطْرة، فكيف بعلاقاتٍ أشد منها كعمل قومِ لوط الذين استنزلوا غضب الرب عزوجل. ونلاحظ في هذا المشهد حضور عامل الصوت "فإذا فيه لغطٌ وأصواتٌ"، "ضَوضَوا".. في حين خلا المشهدان السابقان منه، فلم يصف نبي الله صلى الله عليه وسلم صوت صراخهما واستغاثتهما من العذاب .. ولعلها رحمة بالنبي صلى الله عليه وسلم إن لم يُسْمَع تلك الأصوات .. أو رحمته بأمته عليه الصلاة وأتم التسليم إن سمعها ولم يصفها لهولها وشدتها المفزعة، فقد قال بأبي هو وأمي: "واللَّهِ لو تعلَمونَ ما أعلمُ لضَحِكْتُم قليلاً ولبَكَيتُمْ كثيرًا"[3]، وفي حديثٍ آخر عن عذاب القبر: "لولا أنْ لا تَدافنوا لدعوتُ اللهَ أنْ يُسمِعَكمْ مِنْ عذابِ القبرِ".[4] وفي سياقِ التحذير من تلك الكبيرة الشنيعة، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أخوفَ ما أخافُ على أمَّتي، عملُ قومِ لوطٍ"[5]، وقال بأبي هو وأمي عليه الصلام وأتم التسليم: "لعن اللهُ من عَمَلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ لعن اللهُ من عَمَلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ ثلاثًا".[6] واللعن دلالة السخط والغضب الإلهي والعياذُ بالله .. فكيف بمقترفِ ذلك يروح ويجيىء في غضب الله ولعنته؟!. كيف بهِ يأكل ويشرب، وينام ويرقد، ويمازحُ هذا ويحدِّثُ هذا، وهو دائرٌ في سَخَطِ خالقه عزوجل ولعنته؟!. فأنى تأتيهِ السعادة وقد أفلتْ شمسُ أسبابها ..؟! وكيف له أن يكون مُوفَّقاً وقد خسر علاقته بربه؟!، ما لم يُحدِث توبة نصوحةً قبل الممات يقبله بها ربُّ العزة جل جلاله، فالمصيرُ ذلك المشهد أو أشَدّ .. المشهدُ الرابع: عذاب آكل الربا – والعياذُ بالله- .. يسبحُ في نهر الدم[7]. وكلما أراد الخروج ألقمهُ الرجل الذي على شطِّ النهر حجراً فينطلق لسبح مجدداً في نهر الدم .. هل نتخيَّل المنظر .. أم ريحُ الدم النتن الكريه فكيف ببحيرته تستغرقُ كامل بدن المُعذَّب .. ناهيك عن غصصِ الحجارة التي اللهُ أعلمُ بهيئتها؛ أحادةٌ ذات حوافٍ تخدش، أم صلبة غايةٌ في الصلابة، أم غير ذلك من مختلفِ ما لا يُطاق ..؟؟، ولكنهُ العذاب – نسأل الله السلامة والعافية – .. لا يتصورن أحدٌ شدة آلام بلعِ تلك الحجارة مع ما يحيط بالمشهد من صنوف العذاب، ولا مهرب ولا خروج من ذلك اللون والرائحة الكريهان .. وأشدّ منهما وأنكى حربٌ من الجبار جل شأنُهُ: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ(. البقرة (278-279) عنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: "يُقالُ يومَ القيامةِ لآكلِ الرِّبا: خُذ سلاحَكَ للحَربِ. وقرأَ: ) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ (، قالَ: وذلِكَ حينَ يقومُ مِن قبرِهِ".[8] يا لله كم هي معركةٌ خاسرة بكل ما فيها من معاني الخسران لذلك العبد الضعيف، أَنْ كان خصمهُ فيها ربُّ العالمين تبارك وتعالى. المشهد الخامس: قومٌ خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تسبَّب ذلك أن شُوِّه منظرهم فشطرٌ قبيح وشطرٌ حسن، ثم أدركهم الرحمن برحمتهِ فتجاوز عنهم. لنلحظ التجاوز الإلهي عنهم مذكورٌ في هذه الصورة الأخيرة، وهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم. قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث من الفوائد أن الإسراء وقع مرارا يقظةً ومناماً[9] على أنحاءٍ شتى، … وفيه أن بعض العصاة يعذبون في البرزخ، … وفيه أن من استوت حسناته وسيئاته يتجاوز الله عنهم، اللهم تجاوز عنا برحمتك يا أرحم الراحمين".[10] أخيراً .. إنهُ لمخطئٌ من لم يعدد العدة للقاءِ الله عزوجل، ولم يرع وصية النبي صلى الله عليه وسلم لنا حيثُ استوصاهُ الصحابة الكرام: " … يا رسول اللهِ كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟"، فكان أوَّل ما قال –بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- : "أوصيكم بتقوى الله" .. كم هي كلمةٌ تأخذُ بمجامع القلوب .. لكأن آذاننا تتلقاها من الفِيّ