تنويه: هذا المقال طويل بل وطويل جداً بطول ليل من فقدوا أحبتهم في حريق مستشفى جازان فجر الخميس 13/3/1437ه. إلى الأرواح الطاهرة التي فاضت إلى بارئها وهي تائهة في ظلام الحريق وظلام الليل.. أنار الله قبوركم، وجعلها روضة من رياض الجنة.. إلى الأرواح المكلومة والقلوب الجريحة: أحسن الله عزاءكم، وغفر لميتكم، وألهمكم الصبر والسلوان.. إلى إدارة مستشفى جازان العام: أقفلتم الأبواب لتمنعوا الأجساد من الهروب.. فهربت الأرواح إلى ربها، وبقيت الأجساد شاهداً عليكم.. إنا لله وإنا إليه راجعون،،، أولاً: ما قبل الكارثة.. محاضر وتقارير سرية منذ أن تم افتتاح المستشفى قبل سنوات قليلة والتقارير تبين أنه غير صالح للاستخدام الآدمي، وأنه خطر جداً على المرضى والطاقم الطبي. لو نظرنا إلى حجم وعدد الحوادث التي وقعت في هذا المستشفى الجديد منذ إنشائه إلى الآن سنجد أن كل شيء يشير إلى وجود وزارة مقصرة وإدارة مهملة، فمن كارثة إيدز الطفلة ريهام وصولاً إلى حادث الحريق. السؤال المطروح : ما الذي يثبت أن الوزارة وإدارة المستشفى يعلمون عن ضعف احتياطات السلامة في المستشفى؟ الجواب: لدينا دليلان وهما: الأول: محضر قام بإعداده الدفاع المدني مع إدارة المستشفى، وتم تزويد عدد من الجهات بصورة منه. الثاني: تقرير المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية المعروف ب "سباهي" عند تقييمه للمستشفى عام 2013م بأنه لم يحصل على أكثر من 16% في جانب السلامة. وبالرغم من هذه التقارير إلا أن المستشفى استمر بالعمل، وكأن هذه التقارير مهمتها الأولى والأخيرة هي إخلاء مسؤولية أفراد بعينهم لا أكثر. وهنا يبدر سؤال: إذا كان هناك منشأة حكومية خطرة يمكن أن تسبب وفاة لأي مستخدم لها فمن يملك الحق في إغلاقها؟ الجواب: لا أحد.. نعم بكل بساطة لا أحد يمكنه أن يغلق مبنى حكومي باستثناء الإدارة المالكة للمبنى نفسه؛ وبالتالي يمكن أن يتعرض المستخدمين لأي حادث نظراً لأن مسؤولاً ما لا يريد إحراج نفسه أمام المسؤول الأعلى منه. أما السؤال الأخطر من هذا وذاك: من سيخبر المواطن البسيط الذي يدخل هذا المبنى أنه خطر وقد يموت بداخله؟ ما هي الجهة المخولة بإعلان أن المباني هذه خطرة، ويمكن أن تتعرضوا فيها لأي أذى؟ الجواب: لا أحد.. نعم بكل بساطة لا أحد يمكنه أن يعلن أن المبنى الحكومي الفلاني خطر ويجب تجنب دخوله قدر الإمكان؛ وبالتالي إذا ساقك القدر إلى أحد المباني الحكومية فاحرص قدر الإمكان أن تخرج منه حياً في أسرع وقت. وكيف لنا أن نطالب بمثل هذه الأمور والمركز السعودي (سباهي) لم يستطع حتى أن يترك تغريدة في حسابه في تويتر بل حذفها لسبب أو لآخر، فإذا كان المركز غير قادر على "كتابة تغريدة" فكيف سيجرؤ على إغلاق مستشفى أو حتى التوصية بذلك أو حتى تحذير المواطنين من خطورة المستشفى؟ الأسئلة السابقة وإجاباتها تقودنا إلى أمر واحد، وهو أن السلامة لدينا طفل يتيم يشفق الجميع عليه، ولكن لا يتبناه أحد! ثانياً: أثناء الكارثة.. خطة طوارئ كسيحة في رواية وردت عدة ملاحظات سنسجلها في نقاط: انقطاع التيار وإظلام تام في المبنى مخارج الطوارئ مقفلة بسلاسل وصول الدخان للأدوار العلوية التي لم يصلها الحريق أصلاً عدم سماع أي أجراس إنذار بعد مدة ليست بالقصيرة صعد مجموعة يطلبون من المحتجزين الصراخ لكي ينقذوهم هذه المشاهدات تدل على أن تطبيق خطة الطوارئ مستحيلة حتى لو كان الحريق في مايو كلينك نفسها. إن بيان وزارة الصحة التي تزعم فيه أنها طبقت خطة الطوارئ بسرعة لهو أعجب من العجب فكيف يمكن تطبيق خطة طوارئ مع مخارج مغلقة وإظلام تام وأجراس إنذار وطاقم عمل تائه. لا يشك عاقل أن بيان الوزارة لم يكن موفقاً في هذه العبارة وبالمجمل لو كان تطبيق خطة الطوارئ ناجحاً لما قتل ثلاثين في الحادث. وحتى نحكم بوضوح على إدارة المستشفى فإن عطل جميع هذه الأنظمة بشكل متوازٍ يعني أن إدارة المستشفى ارتكبت جريمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فلا يمكن التصور أن يهمل مدير مستشفى جميع هذه الأنظمة وهو يعني أن هذه المنشأة تعمل على مدار الساعة، ومعظم المقيمين فيها هم عاجزون عن الحركة. ملاحظة مهمة: تحدث الكثيرون عن أبواب الطوارئ المغلقة بالسلاسل، وتغافلوا عن أبواب لا تقل عنها خطورة كانت مفتوحة بل ومشرعة على مصاريعها. هذه الأبواب هي التي تفصل ما يعرف بقطاعات الحريق سواء كانت في نفس الدور أو بين الأدوار المختلفة. هذه الأبواب دورها تأخير انتقال الحريق والدخان من موقع لآخر؛ وبالتالي تعطي وقتاً أطول في الإخلاء وتركها مفتوحة يعني أن تحكم بالموت على الجميع دفعة واحدة، وهذا ما حدث في جازان، لم يمت من كان في موقع الحريق بل من كان في الأدوار العلوية، ولم تصله النار بل وصله الدخان فقط. ثالثاً: ما بعد الكارثة.. الحل الممكن والمعقول لا أعلم يقيناً ماذا ستفعل وزارة الصحة فأمامها عمل كبير جداً، لا يمكن أن تنهيه في عام أو عامين، فآخر إحصائية أصدرها المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية المعروف (سباهي) يقول إن خمسة وتسعين بالمائة (95%) من المستشفيات الحكومية لم يتم اعتمادها بسبب فشلها في اختبار أنظمة السلامة. إن فشل هذه النسبة العالية من المستشفيات يعطي مبرراً واضحاً وكافياً لكمية الخلل الإداري والمالي في الوزارة، ولذلك تحتاج الوزارة إلى خطة عمل صغيرة جداً وفعالة جداً، الخطط الكبيرة لن تجدي نفعاً مع وجود هيكل إداري مترهل، وخلل كبير في تطبيق أبسط إجراءات السلامة. في مقابلة لي على قناة المجد علقت على تصريح الوزير في تويتر أنه لن يسمح للحادث أن يتكرر، وقلت بل سيتكرر وسيتكرر ولا يستطيع الوزير إيقاف المشكلة، ولم يكمل تعليقي 12 ساعة حتى احترق البرج الطبي في الدمام. إن وعد الوزير بعدم تكرار الحادث يستحيل تنفيذه، لكنه يستطيع أن يضمن عدم موت أحد في الحوادث التالية، إن اتبع الخطوات التالية: إنشاء إدارة جديدة للسلامة أو تكليف إحدى الإدارات بها بشرط أن ترتبط هذه الإدارة به شخصياً، أو بمعالي نائب الوزير. تعيين موظف واحد في كل مستشفى أو برج يرتبط مباشرة بهذه الإدارة، بدون وجود أي تعقيدات إدارية، أو تسلسل إداري طويل. وضع قائمة محدودة لاشتراطات السلامة مثل النظافة العامة، والتمديدات الكهربائية السليمة، والحرص على عدم وجود أدوات طبخ تسبب الاشتعال. وضع قائمة محدودة لاشتراطات الحماية من الحرائق مثل التأكد من فتح مخارج الطوارئ، وإغلاق الأبواب العازلة بين الأقسام، والتأكد من وجود آلية واضحة لإخلاء العناية المركزة والعاجزين عن الحركة. رفع تقرير أسبوعي من الموظف لمدير الإدارة مباشرة، ونسخة لمدير المستشفى يحوي فقط القوائم الواردة أعلاه يكتب بخط اليد وبدون صور حتى لا تتعقد عملية إصدار التقرير وتأخذ وقتاً طويلاً. عند ملاحظة تكرار الملاحظات في أي مستشفى، وعدم حلها من قبل مدير المستشفى يتم إبعاد مدير المستشفى عن الإدارة مباشرة. هذه الخطوات الست يمكن تنفيذها خلال أسبوعين، وستضمن مستوى سلامة جيداً في المستشفيات، وستوضح الخلل الموجود في "الإدارة"، ومدى رغبة وحرص المسؤولين في المستشفيات على تطبيق السلامة. معالي وزير الصحة ونائبه أمامهم تحدٍ كبير في معالجة مشاكل الوزارة وعلى رأسها السلامة؛ وبالتالي فإن تطبيق الخطط قصيرة الأمد ذات الفاعلية المتوسطة هي الكفيلة بالحد من الخلل الموجود في الوزارة لحين وضع سياسات طويلة الأمد لتطوير القطاع الصحي بالكامل. دمتم في رعاية الله.. م. علي أحمد الحميد استشاري السلامة والصحة المهنية @alialhumaid