ما السر في إعادة (العربية نت) الترويج لمقال نشر منذ عامين، ووصف كاتبه بأنه (عالم دين سعودي)، يصف إغلاق المحلات في أوقات الصلاة بالبدعة، ويرى أنها مخالفة للشريعة من أوجه سبعة؟! وإذا كنا على قناعة بمشروعية إغلاق المتاجر وقت أداء صلاة الجماعة، فهل علينا أن نتخلى عن هذه القناعة حذرا من رمينا بأننا ذوو (مواقف متحجرة) متمسكة بأمور (لا أساس لها من دين أو عقل)؟ دعونا أحبتي نتأمل هذه (المخالفات السبع) التي وقعنا فيها بإغلاقنا للمتاجر في وقت الصلاة، ولنتجاوز بعض النقاط العَرَضية، مثل تعريف البدعة (وفق المعنى السائد بأنها فعل شيء لم يفعل في الصدر الأول)، أو القول بأن (الشرعيين يقولون قديما في أدبياتهم: لا يجوز الإلزام في الشريعة). 1_ إغلاق المحلات في وقت الصلاة بدعة لأن الإغلاق لم يُفعل في صدر الإسلام نهائيا! سبحانك ربي! هب أنه لم ينقل (الإلزام بإغلاق المحلات) فهل يلزم من ذلك أن يكون بدعة؟ لم لا نقول: إن الإلزام بالشيء والعقوبة على مخالفته، إنما يحصل حيث تكون المخالفة، فإذا لم تكن المخالفة، وسارت الجماعة على نهج مستقيم فما الداعي إلى الإلزام والعقوبة؟ تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم»، ألا تجد فيه إيماء إلى أن المتخلفين بالصلاة آنذاك لم يكونوا يجاهرون بذلك في الأسواق والطرقات، بل كانوا مستترين في بيوتهم، ومع ذلك هم النبي بالتعرض لهم بالعقوبة مع استتارهم في بيوتهم، أفتراه صلى الله عليه وسلم يهم بعقوبة المستتر ويُعرض عن المجاهر؟! فنقول: أثبت أولا أن التخلف عن صلاة الجماعة والمجاهرة بذلك اشتغالا بالبيع والشراء كان أمرا مستقرا في العصور المفضلة، فعند ذلك يُسلّم لك القول بأنه لم ينقل الإلزام بإغلاق المتاجر ومعاقبة المخالف. ثم إن الاستدلال لمشروعية أمر ما لا تنحصر في دليل معين كما هو معلوم، بحيث إذا لم يثبت هذا الدليل لم يثبت المدلول، بل قد ينتفي دليل معين، لكن يثبت المدلول بدليل آخر، فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث العديدة بالأمر بالجماعة, والتأكيد عليها, ووصف المتخلف عنها بالنفاق, والهم بعقوبته بأغلظ العقوبات، أدلة إن لم تدل بطريق التصريح على ترك البيع وإغلاق المتاجر لأداء الصلاة جماعة فإنها دالَّة عليه بطريق اللزوم, إذ لا يتحقق للمسلم أداء واجب الجماعة إلا بترك ما يشغله عنها في وقتها من بيع أو غيره. كما أن هذه النصوص دالَّة على المطلوب أيضا بطريق مفهوم الموافقة الأَوْلى؛ ذلك أنه إذا أُوقظ النائم من أجل الصلاة, ووُصِف المتخلف عن الجماعة بصفة النفاق من أجل ذلك, دلّ ذلك بطريق الأولى على إلزام اليقظان. ولا شك أن دلالة الأدلة الشرعية لا تقتصر على الدلالة المباشرة المطابقة, بل يستفاد منها بأوجه عديدة من منطوق ومفهوم وعموم وقياس…. وهذا أمر واضح عقلا، وليس خاصا بالاستدلال الشرعي. انظر إلى أمر الله عز وجل المسلمين حال الخوف ومواجهة العدو، كيف أمر المسلمين _بنص القرآن_ بالصلاة جماعة, ولم يكتف بطائفة عن طائفة, بل أمر كلتا الطائفتين, واغتفر _سبحانه_ ما يكون في ذلك من ترك الواجبات وارتكاب المحظورات، كل ذلك من أجل إقامة الجماعة, ألا تجد في ذلك دلالة أولوية على التزام الجماعة والإلزام بها في أحوال الأمن؟ لا أريد الإطالة ببيان قصور هذا الاستقراء الذي قاد إلى القول بأن (الإغلاق لم يفعل في صدر الإسلام نهائيا، وهو مستحدث ولا أصل له)، فقد بيّن بطلانه فضيلة الشيخ عبدالعزيز الطريفي في مقاله القيّم (إغلاق المتاجر للصلاة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمراء الإسلام)، كما نبّه إلى جماعة ممن ألف في الحسبة وأحكامها، منهم عمر بن محمد السُنّامي الحنفي، في كتابه (نصاب الاحتساب ص221): «ويُحتسب على من لم يحضر الجماعة، ويخوف على ذلك بإحراق البيت»، وابن تيمية يقول في (الحسبة ص17): «ويأمر المحتسب بالجمعة والجماعات»، وابن القيم (في الطرق الحكمية 2/628): «على متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس .. ويأمر بالجمعة والجماعة»، وأحمد بن عبدالله بن عبدالرؤوف الأندلسي (كما في: ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة والمحتسب ص73): «وعلى الناظر في الحسبة أن يقيم الناس من الحوانيت والدكاكين إلى المسجد، ويعرف من يحافظ على الصلاة من أهل السوق ممن يفرط فيها، ويؤدب المضيع إن عثر عليه». لكن ستتضح الصورة، ويزول العجب إذا علمنا أن الكاتب _هداه الله_ لا يرى هذا الرأي في صلاة الجماعة فقط، بل يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كله عبارة عن توجيهات ونصائح، ليس لها أي صفة إلزامية، يقول في برنامج (واجه الصحافة): الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس هو الأمر السلطوي _بالمناسبة_ هو الأمر الإعلامي، هو التوجيه، كقوله ﴿الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل﴾ أي: يدعون ويوجهون، ليس معناه الأمر السلطوي، وكل صيغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواردة في القرآن تشير إلى هذا، ومن ضمنها الصلاة، ف(يأمرون بالصلاة) أي: يشجعون عليها ويحثون عليها. اﻫ. إذن: لا بأس في أن تمارس الدولة (الأمر السلطوي) في جميع جوانب الحياة وتنظيماتها، لكن عندما يتعلق الأمر بالدين بل بأعظم شعائره فإنها تكتفي بالأمر الإعلامي والتوجيه والنصائح، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده»، أو قوله صلى الله عليه وسلم عن الخُلُوف «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن» فلا أدري أين موقعها حسب هذا الفهم الجديد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! 2_ في الإلزام بإغلاق المحلات وقت الصلاة إلزام بقول فقهي… لا شك في أن الخلاف قد وقع في حكم صلاة الجماعة، وقد قرر كثير من العلماء _رحمهم الله_ أن لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن هذا الاعتراض غير قادح فيما تقوم به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإلزام بإغلاق المتاجر في أوقات الصلوات، وذلك لوجهين: أحدهما: أن إلزام الهيئة بصلاة الجماعة ليس من باب الإنكار على المخالف في مسائل الاجتهاد، بل من باب الإنكار على الموافق فيما يعتقده منكرا. بيانه: أن القول المفتى به في هذه البلاد هو القول بوجوب صلاة الجماعة، فهذا ما يفتي به عامة العلماء هنا، ومنهم الجهة المسند إليها الفتوى (هيئة كبار العلماء)، وإذا كان كذلك فالعامة تبع في المسائل الشرعية الاجتهادية لعلمائهم، ولا يجوز للعامي أن يتخيّر من أقوال العلماء بالتشهي. وإذا خالف المرء ما يعتقده الحقَّ والصوابَ فإنه يُنكر عليه؛ لأنه أتى ما يعتقده محظورا، وقد نصّ على هذا بعض من قرر من العلماء أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وعلى سبيل المثال يمكن الرجوع إلى ما بحثه الغزالي _رحمه الله_ في الشرط الرابع من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإحياء. والوجه الآخر: بصرف النظر عن وجوب الجماعة وعدمه، فإن الإلزام بالتوقف عن البيع في وقت الصلاة هو نظام سنَّه ولي الأمر، وفيه تحقيق للمقاصد الشرعية؛ فكان التزامه واتباعه واجبا؛ للإجماع على وجوب السمع والطاعة في غير معصية الله، إجماعاً مستندا إلى النصوص الكثيرة الواردة بهذا المعنى، كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وقوله صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، ففي هذه الأدلة _كما يقول المباركفوري رحمه الله_: أن الإمام إذا أمر بمندوب أو مباح وجب. انظر: تحفة الأحوذي (5/365). ومن هنا كان من المتقرر في السياسة الشرعية: أن للإمامِ المنع من بعض المباح، والإلزام في مسائل الخلاف للمصلحة. وعلى هذا فيقال للمعترض على الإلزام بإغلاق المتاجر بعدم وجوب صلاة الجماعة: «وهل من شرط القرارات الحكوميّة أن تكون واجبة شرعاً وإلا فيجب إلغاؤها؟ هل أخذ رخصة لقيادة السيارة واجب شرعاً؟ وهل استخراج بطاقة للهويّة الوطنية فرض عين؟ وهل كلّ القرارات التنظيمية التفصيلية في البلديّات والمرور والتعليم من الفرائض؟ لا شكّ أنها قرارات محترمة وضروريّة لما فيها من مصالح عامّة تقوم حياة الناس عليها، ووجوبها من مفهوم الطاعة الشرعيّة الواجبة، وكذلك قرار إغلاق المحلات التجاريّة هو قرار حكومي محقّق لكثير من المصالح الشرعيّة .. أم أنّ كون هذا القرار جاء محقّقاً لمصالح دينية محضّة يجعله أمراً غير ذي بال؟!». 3_ أن إغلاق المحالّ التجارية مخالفة شرعية، من جهة أنه يُجبر الناس على الصلاة في أول الوقت مع أن أوقات الصلاة موسعة. لاشك أن الله تعالى فرض هذه الصلوات الخمس في أوقات موسعة؛ رحمةً منه وتيسيرا على عباده؛ ولكن لا يصح الاعتراض بهذا لأمرين: الأمر الأول: أن إلزام أهل الحسبة للتجار بالإمساك عن البيع في أول وقت الصلاة, ليس المقصود منه الإلزام بالصلاة في أول الوقت، وإنما الإلزام بالجماعة، فوقع الإلزام في أول الوقت تبعا لا قصدا. الأمر الثاني: أن طرد هذا الاعتراض يقتضي مناقضة النص ومصادمته, وأن يقال: في قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى _مثلا_ «لا أجد لك رخصة»، أو قوله (لقد هممت أن أحرق بيوت المتخلفين): إنه لا موجب لهذا التشديد النبوي في أمر الجماعة؛ لأن الوقت واسع؛ فكيف يضيق على الناس بأن لا تكون صلاتهم إلا مع الجماعة! ولا يخفى بطلان مثل هذا الإيراد. ولهذا نقول: إن توسعة الوقت فيها رخصة لمن لا تلزمه الجماعة, ومن كان معذورا في التخلف عنها, كما أنها رخصة للجماعة نفسها في أن تصلي في أي الوقت شاءت، لكن ليس في توسعة الوقت رخصة لمن تلزمه الجماعة في التخلف عن الجماعة, والله أعلم. 4_ أن في إغلاق المحلات ضررا على الناس والشريعة جاءت برفع الضرر.. 6_أنه يتسبب في حوادث سرقة… 7_أنها تتسبب بالسرعة (سرعة السيارات)… لاشك أن هذه الشريعة الإسلامية شريعة كاملة عادلة, لا حرج فيها ولا عسر, قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، والواجبات الشرعية كلها موضوعة على أساسٍ من اليسر والرحمة, فإن عرض في أحوال العباد ما يُلحق بالعبادة الحرج والعسر كان ذلك العارض سببا في شرع تيسير آخر، والحمد لله. وواجب صلاة الجماعة هو واحد من تلك الواجبات الشرعية، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بيانٌ لعددٍ من الأعذار التي يرخص للمرء فيها في التخلف عن الجماعة؛ ولهذا ذكر الفقهاء أعذارا عديدة تبيح ترك الجماعة. بعد ذلك نقول: إن النظر في هذا الإيراد ومناقشته تتوقف على مقدمة, وهي حكم صلاة الجماعة أوَّلا, وبناءً على ما ترجّح من وجوب الجماعة على الأعيان فهنا عدة وقفات من هذا الاعتراض: أ_ الحرج مرفوع في هذه الشريعة, والضرورة تبيح المحظور, والحاجة قد تُنَزَّل منزلة الضرورة في ذلك, هذا أمر مسلم, لكن لارتكاب المحظور وإسقاط الواجب من أجل الضرورة والحاجة ضوابط، منها: أن يكون ذلك بقدر الضرورة, فالرخصة تقدر بقدرها ولا يعمم حكمها, ولا تتجاوز محلها. وعليه: فتلك المضار والمفاسد التي ذُكر أنها تترتب على إغلاق المتاجر في أوقات الصلوات: إن أريد بذكرها إبطالُ أصل وجوب الجماعة, وإلغاء مبدأ ترك البيع والتجارة لأداء الجماعة إلغاء عاما مطلقا، إن أريد بها ذلك فهذا استدلال فاسد؛ وتعليل غير مقبول؛ لأنه تعميم لدليل خاص، لأن الرخصة استثناء من أصل، والاستثناء لا يجوز جعله أصلا، فذلك خطأ عقلي فضلا عن كونه تعدِّيا شرعيا. وإن أريد بذكر تلك المفاسد والأضرار النظرُ فيها, لتمييز ما يُعد عذرا منها في ترك الجماعة عما لا يعد, وبحث الحلول لها, أو الحكم بالرخصة فيها بقدر ما يقتضيه العذر، إن أريد هذا المعنى فهو نظر مقبول معتبر؛ لأنه يجمع بين الحكم الأصلي العام الذي هو وجوب الجماعة، وبين الرخصة التي أثبتتها الشريعة لرفع الحرج. ب_ أن قول القائل (إن في الإلزام بإغلاق المحال التجارية مفاسد عدة…) حاصله: الاستدلال على عدم مشروعية الإلزام بدليل المصلحة المرسلة. ومعلوم أن من شرط الاحتجاج بالمصلحة: ألا تخالف نصا، وهذا الشرط غير متحقق في مسألتنا، فقد تقدم ذكر بعض النصوص الآمرة بصلاة الجماعة في المساجد. كما أن من شرط اعتبار المصلحة أن لا يعارضها مصلحة أرجح منها، وكم في إلزام الباعة والمتسوقين بصلاة الجماعة في المساجد من المصالح الدينية والدنيوية الراجحة. ج_ بناء على ما سبقت الإشارة إليه من أن صلاة الجماعة كغيرها من الواجبات، تسقط بالأعذار المعتبرة شرعا, فإن تلك المفاسد التي أوردها المعترض _من غير أن نخوض في تفاصيلها_ لا تخرج عن نوعين: النوع الأول: مفاسد متحققة الوقوع. ونعني بها: المضارّ التي تلحق بالناس _من تجارٍ ومشترين_ من جراء إغلاق المتاجر أوقات الصلوات، وقد اعتبرها الشارع عذرا في التخلف عن الجماعة. فالموقف من هذا النوع يكون على مرتبتين: الأولى: بحث الحلول الممكنة لدفع تلك المضار, فبذلك يتحقق مصلحة إقامة الجماعة من غير ترتب مفسدة. ومن الحلول التي يمكن ذكرها هنا _ للمثال فحسب_ : تقصير المدة بين الأذان والصلاة في مساجد الأسواق، تهيئة مكان لانتظار النساء، إعداد مصلَّيات داخلية في المتاجر الكبرى، تمديد الوقت بين المغرب والعشاء، بحيث تقام صلاة العشاء بعد أذان المغرب بثلاث ساعات _مثلا_ بدلا من ساعة ونصف. المرتبة الثانية : أن لا يمكن إيجاد حل تندفع به تلك المفسدة, فهنا تُنَزَّل الرخصة في ترك الجماعة, لكن تكون رخصةً مقتصرة على محل الحاجة. وبهذا نتمكن بحمد الله من الجمع بين الواجبين: إقامة الجماعة, ودفع الحرج اللاحق في بعض الأحوال. النوع الثاني: مفاسد متوهمة. وهي التي لم يثبت اعتبار الشرع لها عذرا في التخلف عن الجماعة، أو أن تكون أعذارا معتبرة، لكن التخلص منها ممكن من غير تفويت للجماعة. ومن الأمثلة لها: اعتراض بعضهم على إغلاق محطات الوقود في أوقات الصلوات. فإن هذه مفسدة متوهمة؛ لأن نفاد الوقود لا يأتي بغتة، بل يمكن لصاحب السيارة التزود بالوقود في سعة من الوقت؛ فلا يتحقق التعارض. فتجاه هذا النوع من المفاسد لابد أن نستحضر أنه ليس كل ما رآه أحد من الناس عذرا في ترك واجب أو فعل محرم يكون كذلك, وأن الواجبات الشرعية لا تخلو في الغالب من شيء من المشقة التي هي من مقتضى الإبتلاء والاختبار؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ». 4_ ونقول أخيرا: إذا عددنا ما نراه مفاسد في إغلاق المتاجر للصلوات، فإن من العدل أن نستحضر ما يقابلها من المصالح المترتبة على ذلك الإغلاق، وما أكثرها، ومنها: أنَّ فيه تعظيماً لله -سبحانه- وإجلالاً لأمره ونهيه، وتقديم محابه_تعالى_ على أهواء الأنفس ورغباتها، وإظهار شعائر الإسلام مما يجعل له أكبر الأثر على من يشاهد هذه المظاهر الإيمانية من كافر فيسلم، أو مسلم غافل فيهتدي، والوقائع في هذا كثيرة، وكم من الوافدين من يقول: لقد تعلمت المواظبة على الصلاة بسبب نظام إغلاق المحلات المعمول به في المملكة والذي يشجع المصلين على المحافظة على صلاتهم ويعطى الفرصة لمن أراد المواظبة عليها، كما أن في إغلاق المحلات أثناء الصلاة إحسانا للتجار والعمال، وإعانتهم على إقامة الصلاة والخشوع فيها، كما أن ذلك يساهم في تجديد الإيمان لدى الباعة، مما يبعدهم عن الوقوع في المعاملات المحرمة، ويمنعهم من ارتكاب الذنوب والمعاصي ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾، كما أن فيها تخفيفا عنهم من ضغط العمل، وإراحتهم بالصلاة التي هي راحة للمسلم في كل أموره، ولو تُركت المحلات مفتَّحة واستمر البيع والشراء لتكاسل الكثير عن أداء الصلاة جماعة، بل ربما أخروها عن وقتها انشغالا أو نسياناً. 5_ أن به مخالفة لبعض النصوص الشرعية الصحيحة مخالفة صريحة، فإغلاق المطاعم مع الأذان وإخراج من يأكل بداخلها تخالف الأمر بالاستمرار بالأكل مع بدء الإقامة فكيف بالأذان… نقول: مرحبا بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم, فالأخذ به لازم لكل مؤمن, ومن الواجب علينا وعلى غيرنا الأخذ بكل ما صح عنه من غير تفريق بينه. في هذه المسألة: صح الدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الصلاة جماعة في المساجد _ وهذا هو الحكم الأصلي العام_، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم إرشاد من قُدِّم إليه الطعام أن يبدأ بالطعام قبل الصلاة, وهذا هو الرخصة الخاصة. ولا تعارض بين هذا وهذا: فعلى أهل المطاعم إذا جاء وقت الصلاة أن يتوجهوا إلى أداء الصلاة جماعة في المساجد _إلا من كان له عذر منهم يبيح التخلف_ ويستثنى من ذلك من قد حضره الطعام وقُدِّم إليه, فله أن يتناول طعامه حتى يفرغ منه من غير إعجال، فبهذا يتفق الدليلان, ويتم العمل بهما جميعا, من غير ردٍ لأحدهما بالآخر. أخي الفاضل/ عبدالله العلويط حفظه الله. إخوتي القراء! التسديد والتوفيق في المسائل الدينية وإبصار الحقيقة فيها ليس أمرا عقليا بحتا، يتفوق فيه الأذكياء ومحبو التنظير والنقد، التوفيق في هذا المجال أمر يتعلق قبل ذلك بحسن القصد. اقرأ قوله تعالى ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾. ﴿الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب﴾. فالهداية في المسائل العلمية والعملية نعمة من الله، يمنحها من علم منه صدق القصد، والإنابة إليه. ارجع بصرك في قول النبي صلى الله عليه وسلم «لو يعلم الناس مافي النداء _أي الأذان من الفضل_ والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون مافي التهجير _أي التبكير إلى صلاة الجماعة_ لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا»؛ تجد فيه وحيا بأن التباطؤ عن العبادات، والتهاون بالفضائل الأخروية، وتعظيم المصالح الدنيوية وتقديمها_ إنما ذلك ناشئ عن قلة العلم وضعف اليقين، وفي هذا إرشاد إلى أن التعلق بالدنيا مرض لا يُداوى بالحجج العلمية فحسب، وإنما بتزكية القلب ومداواته. أقول هذا لفتاً إلى جانب مهم ينبغي حضوره عند مناقشة مثل هذه المسألة، ولا أتهم بالتقصير فيه أحدا إلا نفسي، أسأل الله لنا جميعا السداد.