من حكم الله تعالى في البشر أنه لما خلقهم جعل سبحانه من سنته فيهم التدرج، ولو شاء عز وجل لخلقهم خلقاً واحداً مكتملاً، قال الله تعالى [وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا] {نوح:14} فهي أطوار في الرحم، على وفق قوله تعالى [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ] {الزُّمر:6}. وهي كذلك أطوار بعد الخروج إلى الدنيا يتدرج فيها الإنسان من طور إلى آخر كما قال تعالى [ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا] {غافر:67}. وأتت سنة التدرج في الإنسان على جميع أجزائه، حتى إن عقله يتدرج في نموه وتتسع مداركه لاكتساب المعارف، ويتدرج في سلوكه للتحلي بالفضائل، وتكون سرعته في الترقي بحسب عزمه وهمته وعمله؛ فمتى كان عزمه أقوى وهمته أعلى؛ سبق أقرانه، وأدرك من كانوا أمامه. والله سبحانه وتعالى حين شرع الشرائع للبشر فإنه عز وجل راعى سنة التدرج فيهم، فجاءت أوامره ونواهيه متدرجة؛ ليوافق الأمر الشرعي تكوينهم الخَلْقِي فلا يكون بينهما تنافر ولا تعارض، وهذه حكمة الحكيم العليم [الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ] {السجدة:7}. وهذا يعطينا درساً مهماً في التعامل مع نفوسنا، ومع من نربيهم ممن هم تحت أيدينا؛ فلا بد أن نأخذهم بالتدرج في أمورهم كلها؛ لأنهم لا يستطيعون الامتناع فجأة عما ألفوا، ولا الامتثال الفوري لما لم يعتادوا. والشريعة الربانية تنزلت موافقة للطبيعة البشرية، ومراعية للتدرج في النهي عما ألفوه، وفي الأمر بما لم يعتادوا عليه: ومثال الأول: التدرج في تحريم الخمر؛ إذ نزل على أربع مراحل. ومثال الثاني: التدرج في فرض الصلاة والصيام، وكان كل منهما على مراحل أيضاً، وقد بين معاذ رضي الله عنه سبب ذلك فقال:«وَكَانوا قَوماً لم يتَعَوَّدُوا الصِّيام، وكَانَ الصِّيامُ عَليهِم شَدِيداً»رواه أبو داود. وأعجب من ذلك، وأحكم في التشريع الرباني، وفي تربية المكلف على الالتزام بالشرائع أن الله تعالى بعلمه بطبيعة البشر، وحكمته في التشريع لهم؛ شرع للفرائض البدنية مقدمات تكون قبلها، إذا حافظ المكلف عليها فإنها تهيئه لها، وتعينه عليها، وتجعله يتلذذ بها؛ ذلك أن القلوب والأبدان تحتاج إلى ترويض وتدريب على فعل الطاعات، والكف عن المحرمات، وينبغي تهيئتها لذلك حتى تجد لذة في الامتثال؛ ولئلا يكون فعل الطاعة أو الكف عن المحرم ثقيلاً عليها. ففي الصلاة شرع الله تعالى الوضوء وجعله شرطاً لها، وشرع التبكير إلى المسجد، والمشي إليه بسكينة ووقار، والدنو من الإمام، وجعل ذلك من سننها، بل يحسب ذلك صلاة له، كما ورد في الحديث:«لَا يَزَالُ أحدُكم في صَلَاةٍ ما دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ»رواه الشيخان. فكل هذه المقدمات من النوافل هي لأجل أن يتهيأ المصلي للفريضة؛ فيؤديها بخشوع وطمأنينة. وحري بمن حافظ على هذه المقدمات للصلاة أن يجد في صلاته خشوعاً ولذة لا يجدها من فرط في مقدماتها. وفي نسك الحج والعمرة يتهيأ المسلم بسفر قد يطول، ويتخذ ملابس أخرى للنسك سوى ملابسه التي اعتادها، ويلبي في الميقات؛ إشعاراً لقلبه بالتلبس بالنسك، ويستمر مُهِلَّاً في طريقه إلى مكة، فلا يدخلها إلا وقد تهيأ قلبه لأداء نسكه، وامتلأ خشوعاً لله تعالى، وشوقاً لبيته الحرام. والصيام من الأعمال البدنية، لكنه يختلف عن الصلاة والحج في كونه كفّاً عن المشتهيات، وليس أفعالاً لها مقدمات يؤديها المكلف فتهيئ قلبه لهذه العبادة العظيمة؛ كما هو الحال في الصلاة والحج؛ ولذا فإن كثيراً من الصائمين لا يستشعرون عظمة رمضان، ولا يحسون بقيمة الصيام والقيام إلا بعد ذهاب بضعة أيام منه؛ لأن قلوبهم لم تتهيأ بعد له، فلما صاموا أول أيامه، وقاموا أول لياليه؛ استشعروا ذلك بعد فوات بعضه عليهم، ومنهم من ينشط أول الأيام ثم يصيبه التعب والملل؛ لأنه قهر نفسه على ما لم تعتد فتكل وتنقطع. إن سنة الله تعالى في عباده بالتدرج تأبى أن ينقلب الإنسان انقلاباً كلياً بمجرد الإعلان عن دخول شهر رمضان، بحيث يلازم القرآن وقد كان هاجراً له، ويطيل المكث في المسجد وقد كان لا يعرفه إلا في الفريضة، ويتخلى عن فضول النظر والكلام والطعام وقد ألف ذلك واعتاده طوال العام؛ ذلك لأن الإنسان ليس آلة صماء يدار محركها بمجرد إهلال الهلال، بل له قلب وعواطف ومشاعر تحتاج إلى تهيئة ورياضة واستعداد يعينه على أن يستثمر كل رمضان، فلا يضيع شيئاً منه. وكثير من الناس يحدثون أنفسهم حال دخول الشهر بانقلاب كلي في حياتهم، ويعدون ربهم سبحانه بخير يراه منهم، ويبدءون أول يوم كذلك لكن ما يلبث القارئ أن يسأم، ولا الماكث في المسجد أن يملَّ، ويتثاقلُ المصلي خلف الإمام، ويتذرع بطول الصلاة أو كثرة الركعات، أو غير ذلك، ولو تأمل لوجد أن العلة فيه هو وليست في غيره، وسبب هذه العلة التي أقعدته عن استثمار الأيام والليالي الفاضلة أنه لم يتهيأ لرمضان، ولم يُعِدَّ عدته له، ولم يروض نفسه على الطاعة قبل دخوله.. وفي كل المسابقات الثقافية والرياضية والعسكرية وغيرها لا بدَّ من فترة للتدريب كافية، ومن نافس بلا تدريب فإنه يخسر ولا يربح، ويفشل ولا ينجح. وكثير من الأعمال في رمضان هي أعمال بدنية قلبيه تحتاج إلى صبر وتحمل، فمن دخل عليه الشهر ولم يروض نفسه لها فإنه لن يخلو من أحد حالين: الأولى: أن يملَّ من مغالبة نفسه، وقهرها على القراءة ونوافل العبادات، فينقطع عن المتسابقين، ويكتفي بالفرائض مع تقصيره فيها، ويحرم بركة رمضان وفضله، وهذا حال كثير من الصائمين إن لم يكن أكثرهم.. فترى الواحد منهم في أول رمضان يحافظ على التراويح، ويقرأ كثيراً من القرآن، ثم يمل ذلك، ويتعب من المجاهدة، فيهجر القرآن، ويتثاقل عن النوافل، وربما فرط في بعض الفرائض، وأمضى أوقاته فيما يضره ولا ينفعه حتى يمضي الشهر وهو بائس يائس خاسر. والحال الثانية: أن يستمر في مجاهدة نفسه، وقهرها على القراءة والصلاة وأنواع القربات ولو لم تجد لذة لذلك في أول الشهر؛ حتى تألف نفسه الطاعة بعد مرور أيام وليالي ضاعت عليه في مغالبة نفسه، وهذا خير من الأول. وخير من الاثنين جميعاً من لا يدخل عليه رمضان إلا وقد روض نفسه على أنواع من الطاعات.. فينتظر هلاله ببالغ الصبر وغاية الشوق؛ لينال بركة الشهر، ويستثمر أوقاته، ويكتسب من حسناته. وسبل تهيئة المسلم لاغتنام رمضان يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: تهيئة نفسية ذهنية عقلية. القسم الثاني: تهيئة بدنية. فكل عمل يريد صاحبه أن يحقق نجاحاً فيه فإنه لا بد أن يقتنع بجدواه، وأن يوجد لديه استعداد نفسي له، وقدرة جسدية على تحقيقه، والتهيئة النفسية والذهنية والجسدية للعمل الصالح في رمضان قبل دخوله سبب لقوة العزم فيه، والجد في استثماره، والاجتهاد في أنواع الطاعات. ويمكن تفصيل التهيئة النفسية والبدنية للعمل في رمضان واغتنامه في النقاط التالية: أولا: الإكثار من الصيام في شعبان، وهو من السنن الفعلية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عَائِشَةَ رَضَيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «… وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» رواه الشيخان. وفي رواية لمسلم:«وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا». وفي رواية لأبي داود: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ». ولو تأملنا حكمة الشارع الحكيم حين شرع الصيام في شعبان لوجدنا أن من أسباب ذلك تهيئة المكلف لرمضان، وتدريب بدنه على الصيام. فكثرة الصيام في شعبان مقدمة تهيئ المكلف لصيام رمضان، ومن أكثر الصيام في شعبان كفّ عن كثير من فضول الكلام والنظر والخلطة وغيرها حال صيامه، وكان أكثر قوة في الصيام والصلاة وقراءة القرآن، والتبكير للمسجد؛ لأن صيامه في شعبان يمنعه مما كان يفعل وهو غير صائم، فلا يدخل عليه رمضان إلا وقد روض نفسه على الكف عن الحرام والفضول، واعتاد الصيام والقرآن وكثرة الذكر والصلاة.. ثانياً: إزالة ما يشغل النفس، ويقلق الفكر، والبعد عنه؛ فإن كان لا بد منه فيؤجل إلى ما بعد رمضان؛ حتى يقبل على رمضان بقلب ساكن مطمئن، وذهن غير مشوش؛ فإن ذلك أدعى للتزود من العبادات، والخشوع الذي هو مقصود العبادة، بخلاف ما إذا شغله شاغل فإنه يفقد الخشوع، فيتثاقل عن الطاعات. ثالثاً: تعطيل المجالس والدوريات التي اعتادها الناس وهي لا تخلو من قيل وقال ولغو الكلام، ويكون القصد من هذا التخفيف استثمار الشهر الكريم، وإقناع النفس أن رمضان موسم إن فات الربح فيه فلا يمكن تعويضه، وأنه أيام معدودات سرعان ما تنقضي كما انقضى في سالف الأعوام، وأنه إن أدرك هذا الرمضان فقد لا يدرك رمضان القابل، وكم في القبور من أناس صاموا رمضان الفائت! رابعاً: الانكباب قبيل دخول الشهر على قراءة فضائل رمضان وصيامه وقيامه، وفضائل قراءة القرآن، وفضائل العشر الأخيرة، وفضائل ليلة القدر، وتدبر ما ورد في ذلك كله من الآيات والأحاديث، ومعرفة ما فيها من الفقه والعلم؛ فإن معرفة فضل الشيء تحفز النفس إلى تحصيله كله، وعدم إضاعة شيء منه. وللعلماء مؤلفات وأبواب في مصنفاتهم أفردوها في فضل رمضان وصيامه وقيامه وقيام ليلة القدر، وجمعوا النصوص الكثيرة فيها، فحري بمن أراد أن يحفز نفسه على العمل الصالح أن يطالعها قبل دخول الشهر؛ ليكون في شوق بالغ إلى تحصيل هذه الأجور العظيمة، وليطالع حال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وحال سلف هذه الأمة، فلعله يتأسى بهم. وإذا كان التنافس قبيل رمضان بين الأسواق التجارية محموماً، وكل سوق يرغب الزبائن في الشراء منه دون غيره بإصدار قوائم بالبضائع المخفضة، والناس يختارون ما كان أقل سعراً ليوفروا شيئاً من المال، ويُولُون ذلك عناية فائقة؛ فلأن يعتني الناس بما هو أهم من ذلك أولى؛ وذلك بمطالعة ما ورد في رمضان من الأجور العظام؛ لئلا يفرطوا في شيء منها. خامساً: ترويض النفس قبل دخول رمضان على التبكير للمسجد، والمكث فيه طويلاً قبل الصلاة وبعدها، والمحافظة على نوافل العبادات كالسنن الرواتب، وسنة الضحى، والوتر، وشيء من قيام الليل، والإكثار من الذكر، وقراءة القرآن، مع مجاهدة النفس على التدبر والخشوع، وإذا كانت أعمال البدن تحتاج إلى رياضة فإن أعمال القلوب أحوج إلى الترويض.. وكذلك ترويض النفس على ترك فضول الكلام والنظر والخلطة، وصرف شاغرها في أنواع من العبادات. سادساً: التخفف من المشاغل الاعتيادية، وسرعة إنجازها قبل دخول الشهر، وتأجيل ما لا يمكن إنجازه، وتوفير ما يحتاجه البيت كل الشهر وللعيد قبل دخول رمضان؛ ليبتعد عن الأسواق ولغطها ومنكراتها طيلة رمضان؛ وليسلم مما يخرق صيامه؛ وليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان كله، فلا يضيع منه شيئاً أبداً. سابعاً: عقد العزم على البعد عن المحرمات والملهيات من فضائيات واجتماعات على لهو وغيرها؛ فإن مواقعة المحرم سبب للصدود عن الطاعة واستثقالها. وإن كان المسلم مأموراً بالتوبة من الذنوب في كل وقت ففي رمضان من باب أولى. ثامناً: الاستعانة بالله تعالى؛ وهي استعانة على فعل المأمور به، واستعانة في اجتناب المنهي عنه؛ كما قال الله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5} وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه بهذا الدعاء: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. رواه أبو داود. وكذلك الاستعانة بالله تعالى على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى شياطين الإنس والجن الذين يريدون سرقة رمضان منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما مِنْكُمْ من أَحَدٍ إلا وقد وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ من الْجِنِّ، قالوا: وَإِيَّاكَ يا رَسُولَ الله؟ قال: وَإِيَّايَ إلا أَنَّ الله أَعَانَنِي عليه فَأَسْلَمَ فلا يَأْمُرُنِي إلا بِخَيْرٍ. رواه مسلم. تاسعاً: التفكر في حاله ونفسه، وتذكر أنه إنما خلق لعبادة الله تعالى، وأن هذا الموسم الكريم ميدان للعبادة كبير، وإقناع النفس بهذا المعنى العظيم؛ فإن الإنسان مع صخب الحياة، وكثرة الصوارف، وتعدد المشاغل؛ قد يغفل وينسى هذه الحقيقة المهمة.. وأقترح أن يخلو الإنسان بنفسه ومع ربه عز وجل ليتفكر في المبدأ والمعاد، والمهمة التي خلق لأجلها؛ فإن ذلك يمثل شحن قلبه بالإيمان بعد أن خبا فيه، فيعينه ذلك على تلمس طرق مرضاة الله تعالى، والتفاني في عبادته سبحانه. عاشراً: محاسبة نفسه قبيل رمضان؛ وذلك باستعراض ما ضاع عليه من الأوقات والفرائض والسنن في يومه وأمسه، وفي شهره الفائت، وفي رمضان الماضي؛ ليجد أنه كان بإمكانه أن يكون أكثر جداً وعبادة واكتساباً للحسنات، وأن ما فاته من الخير العظيم بسبب ذلك لا يمكن تعويضه، لكن يمكنه أن يتدارك ما بقي من عمره، وبداية ذلك من لحظته التي يعيشها، ورمضان الذي ينتظره. وأحسب أن هذه التهيئة النفسية والبدنية ستقنعه بأهمية رمضان، وخشية فوات فضله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيهِ رَمَضَانُ ثمَّ انْسَلَخَ قَبلَ أَنْ يُغْفَرَ لَه، رواه الترمذي.