إلى أختي مها بنت أحمد حسن فتيحي وفقها الله تعالى لكل خير وجنبها بتوفيقه كل وزر : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد : أكتب لك هذه الرسالة متضمنة نصيحة آمل أن تأخذ من وقتكِ القليل لقراءتها ومن فكركِ الكثير للتأمل بما فيها , وهي وإن كانت موجهة إليكِ فلا تستغربي من نشري إياها على الملأ فإن ذلك كان لأمرين , أولهما : أن ما تقومين به من نشاط في الشأن العام أناصحكِ من أجله أمرٌ معلنٌ فليس في نصيحتي بهذا الشكل ما فيه إساءة لكِ , الثاني: أني كما أرجو من الله أن ينفعكِ بها أطمع منه سبحانه أن ينتفع بها كثيراتٌ وكثيرون غيركِ , ولعل في هذا مجلبة للأجر لك من حيث لم تحتسبي ولم تقدري . وقد اخترتك لهذا الخطاب وأنا أعلم أن من ورائك من هو في أمر الدنيا أرفع منكِ, ومعكِ من لا يقللن قدراً عنكِ , لظني –والله أعلم -أنكِ أقربهم إلى طلب الخير وأبعدهم عن تعمد الإساءة , لكن ليس كل مجتهد بمصيب ولا كل طالب للخير واصل إليه . أختي مها : يعلم الله تعالى وحده كم أنا مشفق عليكِ من مغبة هذا الطريق الذي تسيرين فيه بقدر ما أنا مشفق على بنات المسلمين من النتائج التي ستصلين بهن إليها في مسعاك هذا لو قدر لكِ النجاح فيه نسأل الله العافية , معتبرا في هذه الشفقة قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (((من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا)) فالأمر أيها الأخت الكريمة عظيم, وعظمه يجعل العاقل من أمثالك حرياَ بالوقوف قبل المضي والتأمل في عواقب ما هو مقدم عليه, فإن كان خيراَ استعان الله ومضى وإن كان شرا استخار الله ورجع , وطريقك الذي تسيرين فيه له ما بعده فتوقفي كثيرا وقارني بين حال سلوكك فيه أو انصرافك عنه , وأكثري من سؤال الله مخلصة له أن يدلك على الخير ويجنبك الشر , وأن يجعلك هادية مهدية ويريكِ الحق حقا ويرزقك اتباعه ويريك الباطل باطلا ويرزقك اجتنابه , وصلي له تعالى طلبا لخيرته فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال : عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال : عاجل أمري وآجله فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به ، قال : ويسمي حاجته) . وحتى لا يكون لحظ النفس فيما تختارين مدخلا , ولا للشيطان في هواك مطمعا , استصحبي وأنت تسألين الله تعالى وتستخيرينه أمورا , أولها : أن ما نحن فيه إنما هو الحياة الدنيا التي وصفها الله تعالى بأبلغ الأوصاف فقال سحانه وقال : { َ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }آل عمران185 {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }الأنعام32وقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }يونس24وقال سبحانه : {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ }محمد36. فحياة الغرور والزوال واللعب واللهو ليست حقيقةً أن يغامر المرء فيها بعمله ودينه وأمته إلا وهو يعلم علم اليقين أنما ما معه إنما هو بضاعة الحق وبذر الخير وكلمة الصلاح , يعلم ذلك يقينا لا وهما ولا ظنا , وما أنتِ مقدمة عليه في هذه المغامرة إنما هو الظن والخرص الذي ذمه الباري في القرآن وبين أن اتباعه في الأمور الجسيمة العظيمة من آكد أسباب الضلال والانصراف عن الحق : {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }الأنعام116 وقال سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }يونس36 . فابتعدي عن الظن ولا تصدري فيما أنتِ مقدمة عليه إلا عن يقين . ثانيها :أي ثاني الأمور التي تستصحبينها عند الدعاء والاستخارة , أن تعلمي أن مما يعمي العين عن اليقين : اتباع الهوى واتباع المُزَينين المُزَخرفين من دعاة الباطل . أما الهوى وهو انصياع الفكر إلى رغبات النفس وجعلها معياراً للحكم على الأشياء , فلا يذكر في القرآن إلا مذموماً , وما ذلك إلا لخطره على النفس , وسر خطورته أنه خفيٌ متلونٌ لا يميزه عن الحق إلا من وقف أمام نفسه موقفا شجاعا ونفذ إلى دواخلها فخلص الحقَ من شهواتها وميزه عنها تمييز الذهبِ الخالص عما يعلق به من شوائب المعادن التي تشبهه وليست منه في شيء. ومن عجائب الهوى التي ذم من أجلها أنه يوقد في النفس هياجاً يحركها إليه, يجعلها مشتغلة به الليل والنهار, أعظم من اشتغال أهل الحق بطلب الحق , وهو ما حمل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على القول في دعئه : اللهم إني أشكو إليك ضعف الثقة وجَلَدَ الفاجر. كما أن من عجائبه شدة تآلف أهله عليه وتساعيهم فيه إلى درجة تُلحِق الفتنة ببعض أهل الحق إذا رأوا قلة الأعوان وضعف الأتباع . لهذا حذر الله من الهوى أيما تحذير , ولعلكِ تتأملين في هذه الآيات وتجدين فيها مصداق ما أقول : قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }النساء135أرأيتِ كيف أمر الله المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة لله , وحذرهم من الهوى الذي هو سبب الظلم والكذب والإعراض ؟ أرأيت كيف كان الخطاب في هذه الآية للمؤمنين عامة ولأفضل الخلق بعد النبيين من الصحابة خاصة , وما ذلك إلا لأن الهوى جرثومة خطيرة لا يكاد ينجو منها مؤمن أو غيره إلا من رحم الله . وقال تعالى : {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }ص26 آه من الهوى حتى نبي الله داود يحذره الله منه ؟ بل حتى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم حذره الله من أهواء الناس التي لا تقبل الانصياع إلى حكم الله مقدمةً الهوى على الحق {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }المائدة49. ومن هذه الآية نعلم أيضا : أن الانصراف عن الحق بلاء قد يصيب العبد بسبب بعض ذنوبه , ولهذا فإن الإكثار من الاستغفار والتوبة باب من أبواب الاستهداء إلى الحق دلنا الله وإياك إليه ولا حرمنا منه وعامة المسلمين . ولهذا كان ثواب العبد الشجاع في مواجهة نفسه الصبور في مقاومة هواها أعظم ثوابٍ وأجزلَة , يقول ربنا عز وجل : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}النازعات 40-41 فتأملي في الآية كيف أن خوف مقام الرب لم يَكف لنيل الوعد بالجنة حتى انضاف إليه نهي النفس عن الهوى , ما أعظم علم الله بدخائل النفوس وأسرارها . أما اتباع المزينين المزخرفين من دعاة الباطل, فذلك إما أن يكون لما عندهم من موافقة هوى النفس , وهؤلاء قد حذر الله من صحبتهم في غير موضع من كتابه ومن ذلك قوله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28 وإما أن يكون اتباع الإنسان لهؤلاء لما عندهم من زخرفة القول وتلبيس الباطل لباس الحق فحذر الله منهم بقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }البقرة204-205-206 فتأملي في هؤلاء الذين ذمهم الله تعالى, تُعجِبُنا أقوالهم ويُشهدون الله على ما في قلوبهم لكنهم عند المخاصمة يظهر لونهم وتبدوا دخائلهم فهم ألداء أشداء , وحين يَصِلُون إلى مآربهم الدنيوية ومناط أهوائهم تكون عاقبة أمورهم إفساد الأرض وإهلاك الحرث والنسل . هذان الأمران كما قدمتُ أختي الكريمة – اتباع هوى النفس واتباع المزخرفين – يطمسان على البصيرة ويُبعدان عن الحق ,واستصحابُ البعد عنهما ضرورة ملحة لمن أراد سؤال الله هداه واستمداده خيرته . ثالث الأمور التي تستصحبينها عند دعاء الله وسؤال الخيرة : أن تعلمي أن من ثمار الهوى عمى البصيرة فيرى الإنسانُ سيء عمله حسنا {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ }محمد14. فإذا استصحبت ما تقدم فاسألي الله واطلبي خيرته وأنتِ ضارعة مضطرة مخلصة في طلب الحق تسألين الله أن لا يفتنك وأن لا يجعلك فتنة كما تأسيا بسلفنا من المؤمنين الذين حكى الله تعالى لنا دعاءهم إياه حين قال : {فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }يونس85 أختي الكريمة : لا تمري على ما تقدم مرور الكرام وتكتفي بقراءتها قراءة المتعجل , بل قفي نفسك واستجمعي فكرك وبصرك وأكثري من التأمل والتبصر في الماضي والحاضر والمستقبل , فإن الأمر الذي أنتِ بصدده من الجسامة والعظم والخطر بحيث لا يسع ذات عقل مثلك إلا أن تُخلي قلبها لطلب الحق وحده نافية عنها العجلة والإقدام والعناد وطاعة الأتباع والمتبوعين . وقد سبقكِ إلى ما أنت بصدده نساء كثيرات في العراق والشام والمغرب وغيرها من البلاد في أزمان قبل زمنك , وما هذا إلا من الخير لكِ حتى تقرأي تاريخهن وتنظري اليوم في واقع شعوبهن وماذا كانت آثار صنعهن على من جاء بعدهن من أهلهن فتعتبري بمن سبق وتستفيدي من تجارب الآخرين , وليكن ذلك امتثالا لأمر الله تعالى عباده بالتفكر والاعتبار بالماضين حين قال سبحانه بعد أن قص علينا خبر من جاءته الآيات فانسلخ منها : {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }الأعراف176وتأملي كيف لخص الله عز وجل في هذه الآية أسباب الضلال بأمرين : الإخلاد إلى الأرض , وهو كناية عن تقديم الرغبة في العلو في الأرض على متابعة أهل الحق , واتباع الهوى ومراعاة حظوظ النفس أجارنا الله وإياك من ذلك . وسوف أكتفي بذكر امرأتين تولتا قبلك كِبَر الجناية على المرأة المصرية ومِن بعدها سائرِ الشعوب العربية , وهما صفية زغلول وهدى شعراوي ولا أظن سيرتهما تخفى مثلك , وكانتا أيضا زوجتين لوزيرين نافذين في عصرهما , لكنني أُذَكر بأن مطلبهما الأعظم والذي نالتا به الصيت والاشتهار كان مجرد نزع الغطاء عن الوجه , وهو الأمر الذي سُميَ في زمانهما تحريرًا ووُسم الميدان الذي تحركتا فيه بميدان التحرير من أجل ما تم فيه من نزع الحجاب عن الوجه , الوجه فقط , الوجه لا غير , وهي المرحلة التي تجاوزتيها أنتِ من زمن مع الأسف الشديد , ثم إن بقية مطالبهما لا تخرج عما تعلنينه اليوم قيد أنملة . مشهد معاصر من ميدان التحرير فإذا تأملتِ فيما فعلن وبماذا طالبن فلعلك تقفين وقفة لتنظري فيما صار إليه ميدان التحرير الذي يُعد حتى اليوم رمزا للنضال النسائي من أجل الحرية . مشهد واحد في ضحى يوم صائف من أيامنا للمرأة في هذا الميدان كفيلٌ بأن يدعوك للتأمل فيما أنت عليه من حال حيث ستبصرين عواقب ما دعت إليه تلكما السيدان اللتان تهرولين أنت ومن معك من النساء حيث مشتا . سترين جل النساء يلبسن ما لا تختلفين معنا على تحريم لبسه على المرأة عند خروجها من ضيق وقصير وخليع , والأدهى من لبسهن له أنهن يسرن به دون أن يعبأن بشيء فقد ماتت القلوب وقُتل الحياء من التعري وخف الخوف من وعيد الله للكاسيات العاريات بأن لا يدخلن الجنة ولا يرحن ريحها . وترين على وجوههن ترتسم أعباء الحياة ومشكلاتها , الكل منهن تسير وهي تفكر في لقمة عيشها وأجرة بيتها وسداد دينها وجهاز عرسها الذي أصبح من واجبها , قَتلت أعباء الحياة نضارة وجهها وصِدقَ بِشرها , تحاول أن تُقاوم تلك المشاعر بنِكات متكلفة وضحكاتٍ صارخة , تطلقها عالية من حين لآخر ضحكات حقيقتها صورة مقلوبة من صور البكاء والأنين بل من صور الصراخ والعويل . أقصى أمانيهن أن يبقين في البيوت معززات مكرمات يحمل عنهن الرجال كرب الصباحات ومشاق المهمات , ويبقين منشغلات بتربية الأبناء وإعداد الأجيال بدلا من قتل الآمال وحمل الأثقال . سترين منهن في هذا المشهد نساءً يركضن كركض الولدان ليلحقن بالباص المكتظ بالركاب ويتعلقن به تعلق الكلاب حتى إذا تكرم السائق بالوقوف وركبن فيه واندسسن بين الصفوف واقفاتٍ على الأرجل متعلقاتٍ في السقف بالأيدي مغمضاتٍ الأعينَ عما يحاك بهن من جميع الجهات فقد أصبح الإعلان فضيح والصمت مريح . وسترين عشرات منهن أيديهن في آباط أصدقائهن يقودونهن إلى حيث يقودونهن شيء بمسمى الحب وهو الكرب , وشيء بمسمى الخطوبة وهي الخطب , ليس لناصح طريق ولا لمنكر سبيل . وأرسلي نظرك في المعارض والدكاكين فستجدين الشابات البائعات وسليهن واستحلفيهن عن تحرش الزملاء وابتزاز المدراء وطلبات الزبناء . وقد ترين منهن ممتدات الأعين في المارين يبحثن عن زائر عربي أو سائح غربي تبيعه حبها بما يملأ جيبها ولا يفضح غيبها . وسترين معلقاً على بعض البنايات صورًا لفتيات تحت مبرر الدعايات, للترويج لبعض المنتجات ,أو الأفلام السينمائيات ,أو المقاهي الليليات . ويمر بك هناك بين الحين والآخر نساء سئمن من السفور وما يجلبه لهن من استهتار المارين وتطفل العابثين فلجأن إلى الحجاب وكن منه على موقفين , فبعضهن أخذن منه ما يُدِرنه على النحور ومؤخر الشعور وتركن التضاريس فخاخا لأعين المتاعيس . وأخريات عرفن الحق عن تجربة فرجعن إلى النقاب والجلباب يبتغين العزة بالطاعة والعفاف بالستر . كل هذه المشاهد لا تخفى على أحد ممن يقف ساعة من نهار صائف في ميدان التحرير بالقاهرة , كما لا يخفى على أحد أنها صورة مكررة يجدها السائر في حواضر مصر طولا وعرضا. لكن الذي قد يخفى :هو أن بداية ما آلت إليه حال المرأة في مصر كان في هذا الميدان وهو عبارة عن نزع الحجاب عن وجه صفية زغلول وهدى شعراوي وعدد من النساء المغرورات عام 1919م ليلقين به تحت أقدامهن في خطوة كانت بداية ما حل بالمرأة من شرور في سائر أنحاء العالم العربي . كان حديث هؤلاء النسوة آنذاك إنما هو عن حقوق النساء وعن التنمية وعن كل ما تتحدثين به الآن فماذا كانت النتيجة ؟ النتجية أختي الكريمة هي ما يشاهده الأعمى من تردي حال المرأة في مصر بمستوى لم تكن عليه في أحلك عصور التاريخ ومن أقربها عصر الاحتلال البغيض , تَرَدٍ في حال المرأة المصرية كان من نتاجه تردي حال الرجل والأسرة والثقافة والاقتصاد , إن المرأة هي عمود البيت فحين يتبدل موضع العمود يتهاوى كل شيء . تَرَدٍ تُعَبِر عنه الأفلام المصرية والكتابات المصرية والأبحاث المصرية والقرارات المصرية . لا أريد أن أثقل هذه الكتابة بالإحصاءات التي أعلم يقينا أنها في متناول يدك ومتناول يد أي قارئ ,لكنني سأذكر شيئا منها للبرهنة على ما أقول ولكِ أن ترجعي لاستكمال ما تريدين إلى المركز القومي للدراسات الاجتماعية والجنائية , و التقرير المسمى تطوير إحصاءات النوع الاجتماعي في مصر ,والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء , والمركز الوطني(أمان) للمصادر والمعلومات للعنف ضد المرأة . 11.5مليون أمية لا تقرأ ولا تكتب في مصر وهي تعادل نسبة 27.4% من إجمالي عدد النساء المصريات , كما تعادل 61% من إجمالي عدد الأميين في مصر . البطالة بين النساء ثلاثة أضعافها بين الرجال حيث تبلغ بطالة المرأة 19.5% من عدد النساء , فترين أنه بالرغم من هذا الانفتاح الذي تعيشه مصر في مجال العمل وعدم وجود موانع نظامية تحول دون العمل المختلط إلا أن المشكلة تتفاقم كل يوم , فلم يكن العمل المختلط في يوم من الأيام حلا . صاحبات الأعمال من النساء المصريات لا يتجاوزن 3.3% من إجمالي النساء العاملات وباقي النساء ألعاملات أجيرات في مقابل أكثر من 16% من الرجال أصحاب الأعمال , فلم ترتفع نسبة سيدات الأعمال رغم دعاوى التنمية . الفجوة بين دخل المرأة العاملة ودخل الرجل يساوي 20.3%لصالح الرجال بالرغم من أن القانون المصري ينص على وجوب المساواة في الأجور بين الجنسين . 17%من الأسر تعولها النساء في ظل غياب الرجال وتخليهم عن مسؤلياتهم . متوسط جرائم الآداب التي يتم ضبطها 52ألف جريمة في العام أعضاء مجلس الشعب المصري من النساء يتجاوزن العشر نسوة أي بنسبة1.8%من إجمالي أعضاء المجلس مع التنويه إلى أن البرلمان المصري أنشئ في عام 1866م الأمر الذي أضطر الرجال الذين يدفعون بالمرأة دائما للخوض فيما ليس من شأنها إلى المطالبة بنظام الكوتا فيما يتعلق بالمرأة أي أن تكون المرأة مستثناة من النظام الديمقراطي ويتم تعيينها دون انتخاب , وهو نظام مطبق عالميا في حق النساء حيث إن تردي نسبة نجاحهن انتخابيا تعد مشكلة عالمية . عدد أطفال الشوارع في مصر تجاوز المليوني طفل . وهناك ظاهرة أمهات الشوارع , وأعدادهن تصل إلى مآت الآلاف ولا يوجد لهن إحصاء دقيق بالرغم من وجود دراسات حكومية بشأنهن وقيامِ المنظماتِ الخيرية بإنشاء ملاجئ مخصصة لهن. 60 % من النساء يتعرضن للتحرش الجنسي هذا مع أن نسبة 96% من حالات التحرش في مصر غير مسجلة فكيف لو سُجلت . يرتكب النساء 5 % من الجرائم سنويا وهي نسبة عالية إذا ما قورنت بغيرها من البلاد العربية كالجزائر مثلا حيث هناك جريمة نسائية واحدة مقابل كل 2744. وهذه النسبة مستثنى منها الأعمال التي لا يُجَرمها القانون المصري كالرقص والخلوة بالأجنبية وحالات معينة من الزنى وشرب الخمور.. هذا أنموذج من الإحصاءات التي تعلمين ويعلم الجميع أن واقع المرأة المصرية الذي يظهر للقادم إلى مصر والذي يبرزه الإعلام المصري بجميع وسائله أوضح من أن تعبر عنه الإحصائيات . بل إن باحثا مصريا وهو فهمي هويدي يرى أن المجتمع المصري مصاب حاليا بمرض الأنومي وهو مصطلح يستخدمه علماء الاجتماع للتعبير عن الحالة التي يتراجع فيها الدور الإيجابي للقيم، بحيث تكرس التراجع والتخلف بدلا من أن تكون رافعة للنهوض والتقدم. وحتى أكون منصفا أختي الكريمة فإن مجتمعنا السعودي بدأ يلحق بالركب منذ أن ظهرت الأطروحات التحررية على السطح ومنذ أن بدأ الإعلام الفضائحي يدخل كل بيت وكل غرفة نوم , وهي في اطراد متسارع بقدر التسارع المريب في حركة تحرير المرأة السعودية . أعظم ما جنته مصر من حركة التحرر النسائي هو خروج المرأة من البيت والتهتك في الحجاب وما جرته هاتان العلتان من مصائب على التربية والأخلاق والأمن . أما ما سوى ذلك فلا تزال شكاوى المرأة في مصر التي أطلقتها صفية زغلول هي نفسها مطالب ناشطات المرأة اليوم في مصر وكأن مائة سنة من عمر التحرر النسائي لم تقدم شيئا . ففي مجال الأعمال يقول تقرير للبنك الدولي بعنوان: «بيئة تنظيم العمل الحر في منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا»صدر في 2007م .( إن النساء يتمتعن بحقوق اقتصادية قوية في ظل مبادئ الشريعة الإسلامية، إلا أن الأعراف والتقاليد الأخري السارية تؤدي إلي تعزيز الأدوار النمطية للجنسين، وتنظر إلي الرجال مثلاً علي أنهم عائلو أسرهم الرئيسيين.). انظري إلى هذا التقرير الدولي , ما تزال الأعراف والتقاليد عائقا يحول دون تطور المرأة المصرية , إلى ماذا يريدون أن يصلوا ؟ ماذا يريدون من المرأة المصرية بعدما قدمت لهم كل ما يطلبون وخسرت من أجل ذلك الكثير ؟ نعم إن مطالبهم لن تتوقف أبدا حتى يقضون على الأسرة التقليدية كما توصي بذلك مؤتمرات المرأة العالمية , مؤتمر القاهرة ومؤتمر بكين . أختي مها فتيحي : إن المشهد ال