ذكرنا في المقال السابق تقديم العقل على النقل، و هو ما يسمى إعمال العقل و المنطق، و ذكرنا ما تضمنه من نظرتهم إلى العقل و الدين و ما خرجوا به من ذلك، فكان الأمر الأول وهو تقديم العقل، و كان الاعتراض على ذلك : ما العقل الذي تريدون ؟ و العقل لا يدرك إلا ما يُشاهد و ما يُحس . وبينا أن هناك لبس لدى الملاحدة وهو أنهم لم يفرقوا بين أمرين مهمين: و هما ما يدركه العقل و ما لا يدركه من الأمور المتعلقة بالعقيدة. فنقول : أولاً : ما يمكن أن يدركه العقل من مسائل المعتقد : فاعلموا أن كل مسألة من مسائل العقيدة الإسلامية لا تتعارض مع العقل ، حيث لا يوجد ما تحيله العقول و تنفيه ، و إن جاء ما تعجز العقول عن معرفته ، فهي تأتي بمحارات العقول ، لا بمحالات العقول ، أي : أنها تأتي بما تحار فيه العقول لضعفها و ضيق مداركها ، ولا يمكن أن يكون في العقيدة الإسلامية ما يحكم العقل باستحالته . فالعقول يمكن أن تستقل بمعرفة بعض القضايا العقدية إجمالاً ، أما على التفصيل ، فهذه لا يمكن أن تستقل العقول بمعرفته و إدراكه . ثانيا : أما ما لا يمكن إدراكه بالعقل من مسائل العقيدة فالإسلام الذي فتح المجال للعقل أن يتفكر في هذا الكون في حدوده التي يصل إليها ، منعه في المقابل أن يشتغل بالتفكير فيما لا يدركه ، لأنه لن يصل إلى نتيجة . و الجميع يدرك أن للعقل حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها ، فللعقول حد إن وقفت عنده نجت و سلمت ، و إن تعدته ضلت و عطبت . و العقل البشري لا يصلح أن يكون حكماً في كل شئ ، لأن هناك أمور لا يدركها العقل الإنساني ، كالذات الإلهية ، فأن العقول لا يمكن أن تدرك الذات الإلهية لأنه لا يوجد شئ يماثلها في المشاهد لتقاس عليه . و كذلك حقيقة الروح و الغيب المحجوب عنا ، مثل موعد يوم القيامة ، فهذه أمور لا تدرك بالعقل . و أصل المشكلة أن من يعظم العقل يريد أن يجعله المهيمن الذي له كلمة الفصل في جميع القضايا ، والمقدم في كل شئ . ولا يراد من هذا إقصاء العقل ، وإنما و ضعه في حجمه الطبيعي . و هناك أمور في حدود المقدرة العقلية ، يكون العقل له الفصل فيها ، فمثلاً لو وضعنا قلماً أو عصاً في كوب ماء ، فإننا سنكون أمام حكمين : الأول للعين ، و الثاني للعقل . فالعين سترى القلم مكسوراً ، و العقل سيحلل هذا الأمر و يعطي نتيجة مغايرة عن حكم العين ، و هو أن القلم غير مكسور لأنه يعلم حقيقة هذه الظاهرة . و العين ترى السراب فتحكم بأنه ماء ، لكن العقل يقول : إنه سراب . فنحن قبلنا حكم العقل هذا لأنه حكم داخل دائرة مقدرته . أما الأمور الغيبية فلا ، فكل ما دخل في دائرة الغيب خرج من دائرة العقل ؛ لأن الغيب لا يخضع لموازين العقل التي يعرفها و يتعامل بها . و الغريب أنكم أيها المعظمون للعقل ، تؤمنون بأمور و تسلمون بها مع أن العقل لا يدركها ولا يفهم ما يحيط بها ، ولا تخضع للحواس و لا تخضع للحكم العقلي المجرد . فمثلاً النوم ، النوم معلوم لدينا كيفيته الظاهرة و مقدماته ، لكن هناك أمور خفية متعلقة بالنوم لا يدركها العقل ، و مع ذلك نسلم بها و لا نناقشها . فالنائم هل سلبت روحه فيكون ميتاً ؟ لكنه يتنفس و أجهزته تعمل ، و لو سلبت روحه لمات . إذاٍ لماذا لا يسمع ولا يرى و حواسه معطلة ؟! . إذاً هو فيه شئ من حياة ، و شئ من موت ، لا نعرف كنهه ولا حقيقته إلى يومنا هذا ، لأنه خارج نطاق العقل ، و مع ذلك لم نناقش هذه الأمور الخفية ، ولو ناقشناها لم نحرج بنتيجة ثابتة . أيضاً النائم يرى في المنام أنه يجري فيستيقظ وهو يلهث ، أو يرى أمراً مرعباً فيستيقظ و هو في قمة الخوف و أنفاسه تتسارع . و يرى أنه يجامع امرأة فيستيقظ و عليه أثر جنابة ، مع أنه نائم من الناحية الحسية ، كيف نفهم ذلك ؟! . و انظر إلى الجاذبية ، هل رأيناها ، هل علمنا كنهها ؟ لا ، و إنما رأينا الأثر ، وقبلنا هذا دون أن نسأل عن برهان أو دليل مادي ملموس عن حقيقتها . إنها أمور غيبية خارجة عن نطاق و حدود العقل و مقدرته ، فالغيب خارج حدود الحس و المشاهدة و القدرات العقلية و القياس و القوانين . (( و للحديث بقية )) . عبدالعزيز السريهيد