في المقال السابق تطرقنا إلى الجواب عن دعوى أن الإسلام يعطل العقل الذي حقه أن يقدم على الدين. فكان الجواب من وجهين، أشرنا إلى الوجه الأول منهما، و بقي من هذا الوجه بيان موقف السنة من العقل، و نجد أن الرسول ﷺ وجه العالم إلى الاجتهاد في المسائل التي لم يجد دليلاً عليها في كتاب الله و لا سنة رسوله فقال : ” إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد ” أخرجه البخاري و مسلم . فهذا الحديث فيه توجيه بإعمال الفكر والعقل في المسائل التي لا نص فيها من القرآن ولا السنة، بشرط أن يكون له أهلية ذلك، وعنده أصول يبني عليه اجتهاده، وليس هذا متروكاً للهوى. وقال ﷺ: ” رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، عن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق. ” أخرجه الإمام أحمد. ففاقد العقل غير مؤهل بحمل التكاليف الشرعية، لأن العقل معتبر في الشريعة الإسلامية، وهو مناط التكليف. و الشريعة الإسلامية التي أساسها القرآن و السنة تعتبر العقل شرطا في معرفة العلوم ، وكمال و صلاح الأعمال ، لذلك كان العقل السليم شرطاً في التكليف . فالشريعة الإسلامية لا تخاطب من لا عقل له ؛ لأنه فاقد الأهلية ، و لا يفهم الخطاب . مع أنها جاءت بما يحفظ حقوق فاقد العقل، فهي وإن لم تخاطبه وتكلفه، فإنها خاطبت العقلاء بحسن رعايته وعدم ظلمه. هذا موقف الإسلام من العقل، و الذي لا يمكن أن يحارب العقل و التفكر، بل مكن للعقل من التطور و الاكتشافات العملية و العلمية و الاستفادة من الطبيعة التي سخرها الله عز وجل للإنسان و دعاه إلى الانتفاع بها : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}[الجاثية:13]. فعلى الإنسان أن يبحث في السماء و الأرض عن المنافع له ، فالإسلام فتح الباب للبحث فيهما . و أما الوجه الثاني : نقول : إنكم نظرتم إلى العقل و الدين و ما جاء به من نقل فخرجتم بتصور خاطئ : 1 – تقديم العقل على النقل. 2 – الإسلام يعارض قواعد العقل و المنطق . 3 – الإسلام يصادم العقل و المنطق . 4 – أن الحقيقة الصحيحة هي التي يصل إليها العقل و ليست التي جاءت عن طريق النصوص الدينية . و يجاب عن هذا الوجه من محاور عدة : المحور الأول : نقول لكم : ما العقل الذي تريدون ؟ فالعقول متفاوتة في الفهم و الإدراك، وسرعة الفهم أو بلادته. فهناك عقل العالم، و عقل المخترع ، و عقل المثقف ، وعقل العامي ، و عقل الأمي الجاهل . فإن قلتم : عقل العالم ، قلنا : عقول العلماء متفاوتة ، بدلالة نقدهم لبعضهم البعض ، و اختلافهم فيما بينهم ، و هذا يشمل علماء الشريعة و علماء الدنيا . و هناك عقل من يدين بدين و إله، و عقل من لا يدين بدين ولكن يعترف بوجود إله، و عقل من لا يدين بدين و لا إله. فحتى الملاحدة يختلفون فيما بينهم . فما ضابط العقل عندكم؟ و أي عقل تعنون ؟ و عقل من ؟ فإطلاق العقل بدون تحديد خطأ في أصل شبهتكم ، و ما بني على خطأ فهو و ما تفرع عنه خطأ كذلك ، و مجانب للصواب . المحور الثاني : العقل لا يُدرك إلا ما يُشاهد و ما يُحس ، أما الأمور الغيبية فلا يدركها ، و هذا قصور في العقل ، فكيف يُقدم على الدين ، الذي هو أوسع مجالاً من العقل ؟! فالدين الإسلامي نصوصه تحدثت عن الأمور المشاهدة و المحسوسة ، و عن الأمور الغيبية ، فكيف يُحَكم القاصر المحدود في الكامل الغير محدود . و سبب لبسكم هو أنكم لم تفرقوا بين أمرين مهمين ، و هما ما يدركه العقل ، و ما لا يدركه من الأمور المتعلقة بالعقيدة . (( و للحديث بقية )) . عبدالعزيز السريهيد