مايولا جيوفانا الباحثة الإيطالية والمدربة الدولية في مجال دراسات الإعلام والاتصال السياسي والاجتماعي، الاسم الذي أتذكره حتى الآن، ومحاضرتها التي خصصتها لنقد بعض الممارسات الإعلامية في الوطن العربي والتي لا تزال تعلق بذهني بتفاصيلها الدقيقة، فلا يمكن أن أنساها ولو مرت عشرات السنين، كنت قد التقيتها منذ خمس سنوات في أول دورة تدريبية تقوم بها في الوطن العربي، والتي كانت تنظمها مؤسسة الأهرام المصرية العريقة لتدريب الإعلاميين علي المعايير الدولية للممارسة الإعلامية ومراقبة عمل الصحافة، ليدور بيننا في ختام المحاضرة التي ألقتها علينا نقاش جدلي طويل حول المفاهيم الإعلامية الغائبة عن ممارسي مهنة الإعلام في الوطن العربي -على حد تعبيرها- أبرزها الموضوعية في التناول، والمصداقية في الطرح، والمرونة في الأداء، وفي خضم نقاشنا تبادلنا الآراء، فاتفقنا في أمور عديدة واختلفنا في أخرى، ولكن ما أكدنا عليه سويًّا وأكد عليه جموع الحاضرين وهم زملاء إعلاميين من جنسيات مختلفة أن هذه المفاهيم تعد من أهم مقومات العمل الإعلامي الناجح. منذ ذلك الحين وأنا أبحث عن محددات تلك المفاهيم، وأفتش عنها في ممارسات إعلاميينا ومؤسساتنا الصحفية والإذاعية والتلفزيونية، فتارة أجدها فأفرح، وأخرى ينصرفون عنها فينتابني الحزن ويعتصرني الألم عما وصلت إليه ممارساتنا الإعلامية، والتي تجعل مايولا ومثيلاتها ينتقدونها بهذا الشكل الفج، فقررت اليوم أن أذكرهم ونفسي بهذه المفاهيم التي غُيبت عن ممارساتنا الإعلامية بفعل فاعل، فالموضوعية هي قلب العمل الإعلامي النابض، والمصداقية هي عقله، ومرونة الأداء هي رئته التي يتنفس بها حينما يضيق صدره، وتتبع الحقائق والوقائع والالتزام بروايتها كما وقعت هي الضمانة الأساسية للفوز بثقة الناس الذين هم غرض المادة الإعلامية، وهي صفات بالغة الأهمية لممارسة الإعلام الناجح، والموضوعية والمصداقية في العمل الإعلامي مثلها مثل قيم الصدق والأمانة في الحياة العامة، فالجميع يتفق على ضرورة الالتزام بها، إلا أنه في المقابل قليلة هي تِلكُمُ الوسائل الإعلامية التي تلتزم بها بشكل وافٍ في ممارساتها الإعلامية. ماهية الإعلام وكما تعلمناها هي التعبير الموضوعي عن ميول الجماهير واتجاهاتها وعقليتها، وبما أن الموضوعية والمصداقية في النشاط الإعلامي هي الوجه الآخر للصدق والنزاهة، فإن هذا –برأيي- يعني بالضرورة احترام عقل المتلقي الراغب في الوصول إلى الحقائق، بعيداً عن الإثارة والتهويل والمبالغة، وموضوعية الإعلامي ببساطة تعني نقل الأحداث بحيادية وتجرد وبصورة متوازنة، وإعطاء كل الأطراف المعنية بالقضية مساحة لإبداء الرأي حتى يتسنى للقارئ أو المستمع أو المشاهد الحصول على كل المعلومات المتعلقة بها، أما مصداقية الوسيلة الإعلامية فهي نتاج تراكمي لالتزامها بتحري الموضوعية في ممارستها الإعلامية حتى يتشكل لديها رصيد من المصداقية تراهن عليه في كونها تلتزم بالموضوعية والاتزان في الطرح، وتبتعد عن ممارسة الفبركة والتضليل وتشويه الحقائق كما تفعل بعض وسائل الإعلام غير المسؤولة، والتي ينبغي أن تكون قائمة على أساس متين عنوانه الحقيقة والحقيقة فقط دون غيرها. مقصودي بالتوازن الإعلامي هنا هو مرونة الأداء، وواقعية العرض، وشمولية الفكر، وبالتالي فإن مضمون الرسالة الإعلامية السليمة بنظري ينطلق من هذه المفاهيم والمبادئ، فينبغي أن تكون مجردةً عن الميول الذاتية، مبنية على الصدق لا على الأخبار الكاذبة والوقائع المشوهة، ويجب أن تكون الممارسات الإعلامية موضوعية في كل ما تطرحه، مجردةً عن الأهواء الشخصية، فتطرح الفكرة التي تعتقد صحتها من غير مصلحة ذاتية أو مؤسساتية، فالموضوعية والمصداقية ومرونة الأداء قيم راسخة، ومبادئ صلبة، وأسس متينة ثابتة، وليست بطبيعتها أمور مطاطية أو موسمية، وأعلم أنه حينما تصبح أمراً اختيارياً فإن ذلك حتماً سيعود بالضرر على العملية الإعلامية برمتها وبأطرافها المتعددة، فالقارئ أو المستمع أو المشاهد سيفقد ثقته بوسيلة الإعلام التي ينتقيها ليستقى منها أخباره، وهذه الوسيلة ستخسر صدقيتها وقاعدة جمهورها وتجعلها محط انتقاد مايولا ومثيلاتها.