من الطبيعي أن نجد لأي توجه فكري أتباعا ومريدين يدافعون عنه ،وغالبًا ما يثير التعجُّب أن يكون الدفاع بعيدًا عن المهنيَّة والتجرُّد ، وينتفي العجب على مائدة الاعلام الحاضن لهذا الفكر أو ذاك ، أو أن يكون ضمن أطر استراتيجية إعلاميَّة غير مباشرة يستوحيها الكاتب أو الصحافي من خلال حسه الوطني الذي نشأ عليه وعلى معارفه ومتابعاته ويعبَّر عن قناعاته التي لا تتعارض مع نهج وطنه وعلاقات بلده. من جانب آخر نجد من يتفانى في المنافحة عبر وسيلة اعلامية سواء تلفزيونية أو صحافة مقروءة عن فكر ليس متوافقًا مع الجو العام لبلده ولبلدان تربطه بها علاقات وطيدة تقوم على الأخوة والمصالح المشتركة ، فيشرع في التماهي لتسويق قناعاته وآرائه التي تعكس سياسة الوسيلة الاعلامية وباستضافتها مسبقة الدفع ، ويؤتى بمستضاف آخر يُحَقَّر ويُمتَهَن ويُشوَّش عليه ، ويواجه باستطلاع يغلب رأي المقابل المتوافق مع سياستها ، وكل منهما لا يأتي على أخطاء تيار أو فكر ينتمي إليه بلده , بل ينافح عنه وكأنه قرانٌ منزَّلٌ , حتى لو كان بقرارة نفسه يعلم أن به عوارًا في حين لا يهتم كثيرًا بمراعاة الصالح العام لبلده سواء بقصد أو غير قصد . ومما لا يخفى على الكثيرين أن البعض من أولئك يغلّب مصالحه الآنية ليظهر مسايرته لنهج ما ، أو لتوجهات فكريَّة تحقق له سلَّمًا يسرِّع له بلوغ طموحاته بتبعيته الثقافية أو الايديولوجية ، حتى وإن كان ميله لفكر مضاد ، فيمسي على حال ويصبح على آخر ...وهؤلاء قلَّة تتبناهم وسائل إعلاميَّة خاصة ... ويتنقل وفقًا لمنفعته .من قناة لِأُخْرى ..ومثال ذلك كاتب ويملك صحيفة يصدرها من بلد أوروبي كان يقول عبرها عن " زعيم القاعدة "الشيخ" ، وبقنوات غربيَّة التكفيري أو الارهابي ...وكذلك الحال حاليَّا عن تنظيم ارهابي مشهور "بتنظيم الدولة " وبقنوات أخرى "داعش الارهابي "... كما هو الاعلام الذي أفرز قنوات خاصة ناطقة بالعربية بدول عربية وغربيَّة ولها ومواقعها الاعلامية المقروءة ، وصحافتها الورقيَّة ... ربما يكون لهم تبرير لذلك لتسهيل تجول مراسليهم بمناطق تواجدها في العراق وسوريا ... لكن هل تنطق بالحقيقة المجردة ...، أو أن لهم أهدافًا أبعد من ذلك ؛ كأن تكرَّس لدى متابعيها بأن هذا الذي تمارسه "داعش" هو الاسلام ، ومن الجائز أن لها علاقات مع مخابرات دوليَّة تسهل للآلاف من المهاجرين لتلك الدول الالتحاق بالتنظيمات الارهابية للخلاص منهم أو لإذكاء الفرقة والانقسام بين الدول العربيَّة ووصمها بصناعة الفكر الارهابي ،ومن غير المفهوم أن يعود منهم آلاف ويدخل آلاف بسلاسة ... وقد استمعت قبل سنين مضت بلقاء مع أحد المسؤولين الأمريكيين يلوم الدول العربية الغنية بأنها لم تفلح في نشر اعلاناتها أو أنهها لا تلجأ لشراء أسهم بوسائل اعلام أمريكية يسيطر عليها رأس المال الاسرائيلي ورجال أعمالها فما من شك تتبنى سياساتها ، مردفًا :تنفقون مليارات في السياحة سنويِّا لو يستثمر رجال أعمال ومالكو شركات خاصة عُشْرها لتحولت تلك الوسائل في خدمة قضاياكم العربية ؛ من هنا نستشف أن كذبة الحياد والحرية الصحفية مجرد كليشيهات فارغة المضمون . ومع هذا تستمر تلك القنوات العملاقة تصب حممها بالتقاط سلبيات دول عربيّة لها علاقات وطيدة مع دول تمول تلك الوسائل فيما هي تمعن في المكايدة بحسبان تلك الوسائل لا سلطة لها عليْها ، لكنها لا تجرؤ حتى مجرد الهمس بممارساتها ضد الأقليات في بلدانها ... وبالمقابل هنالك تنظيمات تأخذ من أتباعها بيعة صارمة بأن مصيرهم يحدده التزامهم المطلق بمبادئها وتحظر عليه أن يتحدث أو يعبّر عن آرائه الخاصة فيما يتعلق بها سواء بحوار ، أو مقابلة ، والاعلامي المهني الصادق مع نفسه من المستحيل أن يلغي فكره ويجيّر اسمه بما يخالف قناعاته وأولئك قلة بل نادرة ومهمَّشة . ويتجلى ذلك من خلافات لا اختلافات في الآراء والمواقف تجاه حوادث أو أزمات طارئة بما لا يمكن أن يُختَلَفُ عليها ولا يؤثر على مسيرة بلده ولا تتعرض لأشخاص, فتجد من يبرر، في وقت من له علاقة مباشرة بالأمر لا يملك معشار حماسه المفرط ، وتجد من يقلب الحق باطلا , والباطل حقا بحسب توجه تيار يتبعه ، والمدهش تجده يجلد توجهًا ما لمجرد تماهيه غير الموضوعي وحين يذوب الجليد بين طرفي أزمة تجده يناقض نفسه ...ولذلك تبقى الحقيقة موؤدة ،وكل اتجاه فكري يدعي أنه هو من يمتلك الحقيقة . ولا شك أن هنالك فارق كبير بين الحق والحقيقة , فالحق حق حتى وإن اختلف أي فريق معه بداعي العناد واستفزاز الآخر ، وهنا يكمن عدم تحرِّي الانصاف وقول الحق ، بيد أن استخدام مفردة الحقيقة التي صارت لدى البعض لازمة تبدأ بخطاب أو لقاء أو مقال بأي وسيلة إعلامية :" في الحقيقة والواقع " مع أن الحقيقة أن الاختلاف الذي قد يتبناه البعض لا ينبع من اقتناع شخصي بل من تبعية ديدنها العجرفة والانتصار لرأي بعينه بغض النظر عن قناعته أو رفضه الشخصي له . ومن هذا المنطلق يرى كل فريق من الأفرقاء انه لا سواه من يمتلك الحقيقة ويروج لها اعلاميًّا بغض النظر عن قناعاته الشخصية, وهذا برأيي أنَّى كان يشكلُّ امتهانًا لإنسانيته وحريته . ولو سردنا أمثلة من واقعنا العربي , نجد أن التَّعصُّب المذهبي والطائفي والذي تنبذه جميع دساتير وأنظمة الدول بلا استثناء ، وقبل ذلك ديننا الاسلامي يمقتها : "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" و" دعوها إنها منتنة"، لأن ما يتمخَّض عنها يؤسس لانتفاء الواقعية ويخدش لحمة الاجماع الوطني , فتجد من يؤيد موقفًا ما كونه موافق لتوجه بلد على نفس مذهبه ونجد فريقًا آخر على طول الخط مع الوجهة المقابلة , وكل فريق ينافح عبر فضائيات ومواقع تواصل وصحف بكل ما يأتي على لسانه ...من أراجيف وترهات مع علمه أن من يتابعه لن يصدقه ... وهنا لا يمكن أن ينتفيَ العامل الطائفي أو المذهبي عن أنه يشكل أهم عامل في تغييب الحقيقة ومع هذا تعج به مختلف الوسائل الاعلامية ، بيد أن عنجهيتها تتحطَّم على ثبات قواعد الحق ، "فالحق أبلج" وأتناول هنا الحقيقة التي يعتمدها من يؤكد أنه عليها سائر بمعزل عن من هو على الحق ومن هو على النقيض . وأرى أن تظل القناعات المعلَّبة التي لا تفيد المجموع بل تشوش عليهم بعيدة عن الانتشار عبر أجهزة اعلامية رسمية ، وعلى كل من يبث أفكاره الشخصية أو الموجَّهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن يتحلَّى بالمسؤولية الاجتماعية ، ويقدّم ما يجمع الأمة على الخير ويحقق مصالحها العامة لا أن يؤسس لانتشار بهدف الظهور الاعلامي . وقد سنت العديد من الدول قوانين وأنظمة تطبق على من يخالفها عبر مواقع التواصل ، والتي وإن كانت ذات انتشار أوسع وأسرع إلا أنها لا تعبَّر بأي حال من الأحوال عن رأي رسمي لأي دولة ما لم يكن موقع له صفة الرسمّة ،ومن واجبات المواطنة أن تظل الآراء متجردة فيما لا يمس أمن بلده وعلاقات الدول فيما بينها ؛ بغير ذلك تنتفى عنه صفة المواطن ، أما تناول الخدمات وقصورها وانتهاك الأنظمة الداخلية ،فذلك لا شك واجب لكشف ما يغيب عن أن أهل القرار ... وعلى ضوء ما تقدم ،يجب ان تسود الشفافية في صياغة اعلام هادف وبنَّاء لا بالتلاعب بالرؤى فيما يُكَرَّس بأنها الحقيقة ، وينتفي معها الحقّ ، بأن نؤيد بِآرائنا موقفا معينًا , وبالغد نقف ضده أو العكس تبعًا لتوجهات ضيَّقة ومع ذلك نُكابِر ونتضاحك على أنفسنا , ونصنفه بأنه رأيٌ شخصي , بينما هو موجَّه ومعه ألغينا عقولنا . ولو نظرنا لإحدى الفضائيات كمثال ، فهي منحازة بالمطلق لسياسة البلد الذي يمولها وفيه مقرها وتبنى سياستها الخارجيَّة ، وحين يواجه أي مسؤول يقول لا وزارة اعلام لدينا ولا سلطة على القناة بينما لا تعرض تلك القناة أخبار تلك الدولة لا بخير ولا بشر ، بينما تتعرض لدول بعينها وحين تتفق مع أي دولة وتتحسن علاقاتها معها طرديَّا تخفف من حملاتها ضدها وهي باختصار مسيَّسة 100%...بينما الاعلام الرسمي خلاف ذلك يتحلَّى بقدر من التحفظ ...فأصبحت القنوات الاخباريّة الخاصة هي الباب الخلفي الواسع الانتشار لإظهار الوجه الآخر (الحقيقي)... . و أدعو لمسطرة إعلامية تنبثق عبر حوار فكري عربي مجرد عن الطيْف المذهبي والطائفي والأهواء والمصالح القُطْريَّة الضيّقة ، وتطرح على الطاولة حزمة من الأمثلة والوقائع الاعلامية المعاصرة ، وتناقش تأثيراتها على الأمن القومي العربي ، بعيدًا عن ذمِّ تلك الوسائل بل بيان ثغراتها وإخضاعها لمعايير الجودة الاعلامية المهنيَّة ،عبر ورش عمل يشارك فيها إعلاميُّون وكتَّابٌ ومثقفون ومفكرون ،ترشحهم وزارات الاعلام أو الجهات المسؤولة عن الاعلام بالدول الأعضاء في جامعة الدول العربيَّة ، وترفع توصياتها لمؤتمر وزراء الاعلام العرب ...لمناقشتها وإقرارها ...وتلتزم بها جميع الدول وتطبق على كافة وسائل الاعلام ولا ينبغي التعلُّل بأن الدول غير مسؤولة عن الاعلام الخاص وأن لكل دولة قوانينها ..حسنًا لكن لا ينبغي أن تستخدم الاعلام الخلفي لتصفية خصوماتها .. أتمنى أن تصل الفكرة ويؤخذ بأحسنها أو يضاف إليها ، المهم أن نبدأ لا أن نظل أسيري التردد ، لعلها أن تجد قبولًا ، فالألف ميل يبدأ بخطوة ...