هناك فارق جوهري بين دول العالم الثالث، التي توصف بأنها نامية، في تهذيب لمصطلح "متخلفة"، وبين دول وشعوب العالم الأول التي توصف بأنها "متقدمة"، لا يكمن في الجينات الوراثية، ولا الصفات الخلقية، ولا لون البشرة، ولا مستوى الصناعة، والتقدم التكنولوجي، وليس له علاقة بالوفرة المادية والاقتصادية. هذا الفارق يكمن في كيفية التعامل مع الغد.. فدول العالم الثالث تنظر إلى عالم الغد بعدة اعتبارات: الاعتبار الأول هو التحريم، من منظور أن الغد لا يعلم ما فيه إلا المولى سبحانه وتعالى، وقد وردت طائفة من الآثار والأحاديث الصحيحة تؤكد تحريم اللجوء إلى العرافين والمنجمين والمشعوذين والسحرة الذين يدعون علمهم بالغيب، وما سيكون في عالم الغد. الاعتبار الثاني هو الخوف، على أساس أن القادم دائماً مجهول، والإنسان عدو ما جهل، ولا يأتي من المجهول إلا ما يخوف الإنسان ويفزعه، فهو أشبه ما يكون بكهف مهجور لا يستطيع أحد الاقتراب منه؛ لأنه مسكون بالأشباح والهوام الغامضة التي تضر ولا تنفع. الاعتبار الثالث هو العجز، بملاحظة أن مفاتيح الحراك في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، يملك الغرب مفاتيحها، ولسنا سوى أدوات لعب في ملعب كبير، تتقاذفها أرجل اللاعبين الكبار، وليس أمامنا سوى الاستسلام لما حدث ويحدث وسوف يحدث؛ لأننا ببساطة شديدة نسير بين دفتي العجز والاستسلام، ونرفض النزول لنهر الحياة المستقبلية. وفي الحقيقة أجد أننا نعيش في وهم كبير بهذه الاعتبارات الثلاثة.. فليس التحريم هنا، ولا الآثار الصحيحة التي وردت تعني، أو تنطبق على التخطيط للمستقبل، واستشراف الأحداث، والتخطيط لما يمكن أن يقع مستقبلاً، سواء للأفراد أو الأمم، والمتتبع للمنهج النبوي يرى في إرشاداته الكريمة صلى الله عليه وسلم ملامح التخطيط والوعي بأهمية استشراف المستقبل في بناء الأمم والأفراد. فالتحريم يقع على ما يقول به المخطرفون من المشعوذين والدجالين، الذين يدعون أنهم على علم دقيق بما سيقع للأفراد لاتصالهم بالجان، وهنا تأتي النصوص القاطعة لتقطع على عقل المسلم الانصياع لشرذمة من الأفاكين وقاطعي طريق المستقبل. وليس بصحيح أن عالم الغد هو عالم المجهول المخوف بطبيعته، فالخوف لا يأتي من ذلك العالم، ولكن الخوف ينبعث من عقل الإنسان ونفسه، فمتى قضى على خرافة الخوف من المجهول تعامل مع المستقبل وعالم الغد بمهنية وعلمية وحرفية دقيقة، واستفاد كثيراً من ذلك. وليس بصحيح أننا لا نملك أدوات تسمح لنا بأن تكون نافذين ولاعبين في الساحة الدولية، على كافة المسارات السياسية والاقتصادية والعلمية، فالعجز نابع من ذاتنا وليس من ضعف الإمكانات التي تملكها دولنا التي حباها الله بنعم وفيرة، يحبطنا الشعور بالعجز عن معرفتها. هذه الثلاثية أراها من معوقات التفكير المستقبلي، وتقف حاجزاً بيننا وبين علوم استشراف المستقبل، ومحاولة الاستفادة منها، وتطويعها لخدمة أمتنا، وهي كما نرى معوقات نابعة من تفكيرنا وذاتنا وليس من شيء خارجنا. ولعل وقفات قادمة تجمعنا بكل معوق من تلك المعوقات، وسبل التغلب عليها.