الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد.. فإن اللقاءات العائلية الدوريّة لهي صورة من صور تكاتف المجتمع، ونضجه، وحُسن ترابطه، فقد اعتادت كثير من العوائل على عقد لقاء عائلي سنوي كبير، يحضره الرجال والنساء والأطفال، وغالباً ما يوافق موعد هذا اللقاء إجازة عيد الفطر المبارك، ومن هنا جاء توقيت هذا المقال؛ لأشارك هذا العمل المنظم الجميل؛ ببعض التنبيهات، لتعظُمَ فائدتُه، وتَضمَحلّ مفسدتُه -إن وُجدَت-.
وسأتناول جوانب الموضوع بأبعاد مختلفة، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
*البعد الشرعي:* هذه اللقاءات هي باب عظيم لصلة الرحم التي حثت عليها الشريعة الغراء، ووضعت لها الأجور العظيمة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يُمدّ له في عمره، وأن يُزاد له في رزقه، فليبرّ والديه وليصل رحمه" حديث صحيح. بل هي واجبة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من قطعها، فعن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع رحم" حديث صحيح. فلننتبه لهذا ولنحذر من العقوبة ولنحتسب الأجر في حضورنا لننال الثواب العظيم.
*البعد الوطني:* إن كانت الأسرة هي اللبنة الصغرى للمجتمع؛ فالعائلة هي اللبنة الكبرى للوطن، فاجتماعها وصلاحها صلاح للوطن، وفسادها فساد للوطن، وهنا يجب على من يقوم على هذه اللقاءات اختيار المتحدثين فيها بكل دقة، والحذر من فتح المجال لمن يستغلها بنشر الفتنة بين الحاكم والمحكوم، أو بتأليب الحاضرين وتأجيجهم ضد ولي الأمر، أو إثارة مايمسّ وحدة الوطن وترابطه؛ والتفافه حول أولياء أمره وعلمائه، ومن المهم استغلال هذه اللقاءات بنشر مفهوم المواطَنة الصالحة، وخطورة الانجراف وراء الخوارج، ومثيري الفتنة.
*البعد العِبادي:* يجب الاهتمام في هذه اللقاءات بالجوانب العبادية، كالصلاة، والحجاب، واللباس الساتر، وعدم التقصير في أيٍّ منها، أو إهمالها، وهي فرصة عظيمة كذلك لتعويد الأطفال على رفع الأذان؛ والشباب على إمامة المصلين.
*البعد السلوكي:* من أهم وسائل تقويم السلوك لدى الفرد المعايشة بالقدوة، فيجب إبراز القدوات في العائلة وتكريمهم ليقتدي بهم الشباب والأطفال، ويستحسن في مثل هذه اللقاءات إظهار السلوكيات الحسنة، والتشجيع عليها، مثل بر الوالدين، واحترام الكبير، وعدم الإسراف في المأكل والمشرب والملبس، وإكرام النعمة؛ وحسن تدبير الفائض منها.
*البعد الأخلاقي:* وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا فهذه اللقاءات ميدان خصب لقياس المستوى الأخلاقي لدى الأفراد، وغرس كثير من الأخلاق الحميدة، مثل تهذيب الألسن، والبعد عن الكلام الفاحش والبذيء، والتخلق بالحياء، والتأدب بآداب الأكل والمجالسة وغيرها.
*البعد التربوي:* ما أجمل أن تستغل مثل هذه اللقاءات ببعض التوجيهات التربوية، لما لها من أثر بالغ، خاصة إذا أحسنَ الموجّه في حديثه وأسلوبه، وكان قدوة في نفسه.
*البعد الاقتصادي:* فلا تقوم هذه اللقاءات إلا بالمال، وهي فرصة للميسورين في العائلة بتحمل نفقة اللقاء، فالإنفاق في مثل هذا الباب -دون إسراف- أجره مضاعف؛ فهو صدقة وصلة، واللقاء كذلك فرصة لتَفَقّد المحتاجين من الأقارب، ومساعدتهم بالمأكل والمشرب والملبس، أو مساعدتهم بتحمّل إيجار منزلهم، أو فواتير الخدمات؛ فهذه والله الغنيمة العظيمة لمن اغتنمها، وتاجر مع الله تجارة لن تبور.
*البعد العلمي:* إن تكريم المتفوقين دراسياً، أو الحاصلين على شهادات عليا، أو الحافظين لكتاب الله؛ لهو من أنفع ما تستغل به هذه اللقاءات؛ لما له من أثر كبير في تحفيز الطلاب لمزيد من البذل في سبيل التحصيل العلمي، والتفوق الدراسي، وبالعلم تحيا الأمم. وأشرف العلوم وأجلها العلم بكتاب الله عز وجل، فخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
*البعد الاجتماعي:* كثير من الأطفال في هذا الزمان -وربما بعض الشباب والفتيات-؛ يفتقدون لبيئات اجتماعية آمنة، بسبب قضائهم أوقاتاً طويلة في الألعاب الإلكترونية، أو أمام الشاشات. وتعتبر البيئات العائلية بيئات مثالية؛ يجب استغلالها في مخالطة هذه الفئة، والتحدّث معها، وتغذيتها اجتماعياً، ونفسياً، وإتاحة الفرصة لها بالتعبير، والنقاش، فهذا يكسر وحدتهم، ويصقل شخصيتهم.
*البعد الصحي والوقائي:* لئلا تنقلب الأفراح إلى مآسي -لا سمح الله- يجب التنبه إلى جانب الوقاية والسلامة، وذلك بالتأكد من سلامة المكان، وخلوه من المخاطر، وإبعاد الأطفال عن المطابخ والمسابح وغيرها؛ واحتوائهم في أماكن آمنة، والحرص على وجود طفاية حريق، وحقيبة إسعافات أولية، فالوقاية خير من العلاج.
*البعد الثقافي:* المسابقات الثقافية برنامج رئيس في مثل هذه اللقاءات، لما لها من أثر ترويحي تنافسي، وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية استغلالها استغلالاً مثالياً في توجيهها للثقافة الدينية، والتاريخية، والطبية، وغيرها من الجوانب النافعة.
*البعد الترفيهي:* وأختم بهذا البعد، وأهميته تكمن في أنّ هذه اللقاءات إن لم يكن للترفيه نصيب من برامجها؛ فستكون مملّة، رتيبة، طاردة؛ غير محفزة، فالنفس جبلت على الترفيه، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه وسائل الترفيه والملهيات، والترفيه في هذه اللقاءات قد يكون بالأحاديث المسلّية، أو المواقف الفكاهية، أو الألعاب الذهنية، أو البدنية، أو غيرها، ويجوز ضرب الدف في الأعياد للنساء، والترفيه باب واسع، والأفكار فيه كثيرة.
هذا، والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
*الكاتب:* أ. فهد بن زيد المزيد
المشرف العام على مجمع حلقات أم إبراهيم الذياب ومجمع نبأ النموذجي لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض.. مهتم بالتربية الاجتماعية..