وجه سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ كلمة تناول فيها موضوع العنف الأسري وما يتوجب أن تبنى عليه العلاقات الأسرية من مودة ورحمة وذلك استجابة من سماحته لتوصيات لقاء الخبراء الوطني حول العنف الأسري. وفيما يلي نص كلمة سماحته : الحمد لله الذي كتب الإحسان على كل شيء وأمر به، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. وبعد: فقد امتازت الشريعة الإسلامية المطهرة بأنها تحقق العدل واليسر والسماحة والأمن، وتراعي مصالح الناس، وتدعو إلى الرفق، والرحمة، والإحسان بكل شيء، قال الله تعالى: « إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون»(النحل: 90)، وعن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله كتب الإحسان على كل شيء...» الحديث أخرجه الإمام مسلم. ولما كانت الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع وترابطه، وبها دوام الحياة البشرية، وعمارة الكون على وفق ما شرعه الله، اهتم الإسلام ببنائها على المودة، والرحمة، والمحبة، وحسن المعاشرة، قال الله تعالى: « ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»(الروم: 21)، وهذا من تمام رحمة الله بعباده أن جعل بين الزوجين الألفة والمودة ليكون ثمرة ذلك حصول الأولاد الذين جبل الله القلوب الرحيمة على حبهم، وجعلهم زينة في هذه الحياة الدنيا، وعوناً لوالديهم على متاعب الحياة، وامتداداً لأعمالهم الصالحة بعد مماتهم إذا أحسنوا اختيار أمهاتهم باختيار الزوجة الصالحة، وأحسنوا تربيتهم، وتعليمهم، وتنشئتهم تنشئة إسلامية صالحة، فتنعكس تلك الآثار الطيبة على الأسرة كلها وعلى جميع أفراد المجتمع، ويعيش الجميع عيشة مطمئنة آمنة سعيدة مستقرة مترابطة، وحياة صالحة طيبة قائمة على المثل العليا، والعدل، والسلوك السوي المستقيم، وبعيدة عن القسوة، والعنف، والظلم، والإجرام. وإن من الظواهر الخطيرة، والمآسي الإنسانية التي بدأت تنتشر بين المسلمين، وتفرز لنا كثيراً من مشاكلها، ومآسيها المحزنة، وآثارها الضارة التي تهدد حياة البشر، وترابط الأسرة، واستقرار المجتمع ظاهرة العنف الأسري بجميع أشكاله وصوره. ومعنى العنف الأسري شرعاً: ممارسة القوة أو الإكراه بطريقة متعمدة غير شرعية من قبل فرد أو أكثر من أفراد الأسرة ضد فرد أو أكثر من الأسرة ذاتها، ويكون المجني عليه واقع تحت سيطرة الجاني وتأثيره مما يلحق به الهلاك، أو الضرر والأذى. والمراد بالأسرة الزوج، والزوجة، والأولاد ويتبع ذلك الأخوات، والأخوة، والأجداد ممن يعولهم رب الأسرة، والغالب أن العنف الأسري يقع من الزوج على زوجته، ومن الأب على أولاده وأخواته وإخوانه، وقد يكون بالعكس من الزوجة على زوجها، ومن الأولاد على والديهم وهذا من أكبر العقوق، وأعظم الذنوب والعياذ بالله. وأنواع العنف الأسري وأشكاله تعددت في هذا العصر وازدادت ضراوة وعنفاً بسبب جهل وحماقة مرتكبيه ، أو حب التسلط، وقلة الوازع الديني، وزيادة الضغوط النفسية والمادية، وكثرة مشاكل الحياة، وإرادة التشفي والانتقام، ونتيجة من نتائج العولمة الضارة، والتأثر بمشاهدة القنوات الفاسدة، وتقليد ما يشاهد فيها من العنف، والإجرام. والسلوك العدواني الناتج عن العنف الأسري تختلف درجته وأنواعه، فقد يكون إيذاءً بدنياً، أو معنوياً، أو مالياً، أو إشارة، وقد يكون إيذاءً جنسياً. ولاشك أن العنف الأسري والسلوك العدواني، واستعمال القوة بغير حق ضد أفراد الأسرة أو غيرهم محرم شرعاً، ويتنافى مع تعاليم الإسلام السمحة، ومثله العالية التي تدعو إلى الرفق، والسماحة، والرحمة، بل قد يكون العنف الأسري من أكبر الكبائر، ومن الفواحش العظيمة خاصة إذا ترتب عليه إزهاق الروح، أو ذهاب العقل، أو كان القتل فيه متعمداً، أو ترتب عليه ارتكاب فاحشة الزنا واللواط، أو عقوق الوالدين ولو كان شيئاً يسيراً، أو ترتب عليه قطيعة الرحم. من ذلك يتبين لنا أن العنف الأسري من أعظم الجرائم، وأكبر الذنوب والآثام، لما يترتب عليه من الأضرار العظيمة، والمفاسد الكثيرة والنتائج المؤلمة ومنها: 1- أن العنف الأسري ظلم لعباد الله واعتداء على حقوقهم وكرامتهم والله سبحانه أمر بالعدل والإحسان، وحرم الظلم، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: ((يا عبادِي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) الحديث أخرجه الإمام مسلم. ودعوة المظلوم مستجابة، والظالم تعجل له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من العذاب، ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم » أخرجه أبو داود، والمراد بالبغي الظلم. 2- أنه سبب لانقطاع العمل الصالح بعد الموت فإن العنف يورث ضياع الولد لما يسببه من اضطراب شخصيته، وإصابته بالإحباط والعقد النفسية وينعكس ذلك سلباً على سلوكه وأخلاقه، مما يؤدي به إلى الفشل في الدراسة، والحياة، والفرار من البيت، وقد ينتحر أو يقع في أحضان أصحاب المخدرات، والسباع الجائعة العطشى إلى هتك العفاف، والحشمة، والشرف، فيتأثر بأخلاقهم الفاسدة، ويكون عبداً فاسداً مجرماً عاقاً لوالديه فلا ينتفعان به بعد موتهما، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم. 3- أن مرتكب العنف عليه وزر من عمل به فإن العنف لا يورث إلا عنفاً، وفساداً، وإجراماً، فمن وقع عليه العنف لابد أن يمارس العنف مع أولاده، وكذا أولاده مع أولادهم، عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمِل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمِل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» أخرجه الإمام مسلم، والمراد بالسنة السيئة هي المعصية، فعليه وزر من عمل بها ، وعليه وزر عمله الأول، ويدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه الإمام مسلم. 4- أن العنف الأسري إفساد في الأرض وذلك لما يسببه من الأضرار العظيمة، والنتائج المؤلمة المحزنة، والمفاسد الكثيرة على الفرد، والأسرة، والمجتمع، فقد يؤدي إلى فقد الأرواح، أو فقد بعض حواس الإنسان أو أعضائه، ويقتل المواهب، فتكثر الأمراض العقلية والنفسية، وتكثر الجرائم والانتحارات، وتحصل العداوات بين أفراد الأسرة والمجتمع مما يؤدي إلى تفكك الأسرة وتشردها وضياعها، فيؤثر ذلك على سلامة المجتمع، ويعوق تقدمه، ويسبب انحطاطه، وانهيار كيانه، وتأخره في جميع المجالات، قال تعالى: « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام0وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد» (البقرة: 204-205)، وقال تعالى: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» (المائدة: 87). 5- إن العنف الأسري سبب للبعد من رحمة الله، وموجب لسخط الله وعقابه وغضبه، قال الله تعالى: « إن رحمة الله قريب من المحسنين» (الأعراف: 56)، وفي الحديث عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحمه الله» متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. ولتجنب تلك الآثار السيئة والنتائج المحزنة للعنف الأسري، والقضاء عليها نذكر بعض الأسباب والوسائل التي تكون سبباً بإذن الله في القضاء على العنف الأسري: 1- اختيار الزوجة الصالحة التي تربت في بيئة صالحة، فالأم هي الخلية الأولى في بناء الأسرة، فهي التي تبني الأجيال، وتعد شباب المستقبل، وهي المحضن الأول للطفل الذي يتعلم منها اللغة، والعادات، والأخلاق، ولاشك أن للأم دور كبير وتأثير قوي على أولادها، والعناية بهم، وتربيتهم تربية إسلامية صالحة، وتعويدهم على العادات الطيبة والأخلاق الحسنة، فالطفل في نشأته الأولى يقضي معظم وقته مع أمه، وهذه المرحلة هي أهم مراحل التلقي والتعلم في عمر الطفل التي تُغرس فيها المثل، والقيم، والعادات الطيبة، ومكارم الأخلاق لذلك ينبغي الحذر كل الحذر من إسناد تربية ورعاية الطفل إلى الخادمة لئلا يتأثر بعاداتها، وأخلاقها، ولغتها، ودينها، أو يتعلم منها العنف إذا كانت قاسية المعاملة وقد صدق الشاعر إذ يقول: الأم مدرسة إذا أعددتها .... أعددت شعباً طيب الأعراق 2- القدوة الحسنة من قبل الأبوين فصلاح الأبوين، والتحلي بالأخلاق الحسنة سبب لصلاح الأولاد، واقتدائهم بهم وتأثرهم بهم، وسبب لتنشئة الأولاد تنشيئة إسلامية صالحة، وسبب للبعد عن العنف والقسوة، وسبب لحفظ الله للعبد الصالح، وحفظ أولاده، قال الله تعالى: « وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك» (الكهف: 82)، وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال:« يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك....» الحديث أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، والمراد بقوله: احفظ الله، أي احفظه باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، فمن اتقى الله بذلك فإن الله يحفظه في دينه، ودنياه، وماله، وبدنه، وأهله، وولده، وعمره، ووقته ويبارك له في ذلك كله. 3 - التحلي بالرفق والحلم والرحمة والمحبة وترويض النفس على الصبر، وتحمل الأذى من قبل الزوجة، والزوج، والأولاد، والأب، واحتساب الأجر عند الله في ذلك، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: »إن الله يحب الرفق في الأمر كله» أخرجه البخاري، وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ما شاء» رواه أبو داود والترمذي وحسنه. فالمربي الصالح، والوالد المشفق، والأم الحنون، ينبغي أن يحتضن كل منهم من تحت يده، ويحتويه بالرفق، واللين، والمحبة لا بالشدة، والغضب، والفضاضة، وقسوة القلب، ورفع الصوت، ولا بالعصى والسوط، فالتربية والتعليم وتقويم الأخلاق بالحب، والرحمة، وحسن المعاملة، والمحاورة الهادئة من أهم الأسباب التي تجعل الأولاد، والزوج والزوجة يقلعون عن العادات السيئة، ويستجيبون لما طلب منهم، ولذلك ينبغي التغاضي عن الهفوات، والأخطاء البسيطة التي قد تصدر منهم أحياناً عن غير قصد، أو عدم إدراك لعواقبها خاصة إذا كان لا يترتب عليها انتهاك لحرمات الله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: «ما انتقم النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله» أخرجه البخاري. لذلك فإن المعاتبة على كل صغيرة والتعنيف عليها توغر صدر المعاتب، وتسبب عداوته وصدوده وعدم قبول المناصحة، ولا بأس من المعاتبة على تلك الأخطاء البسيطة إذا كررها برفق، وحسن كلام وليكن ذلك لوحده حتى يكون أدعى لقبول المناصحة، ولا يكن ذلك بالتخويف، والضرب، والتوبيخ، ورفع الصوت، والقسوة في المعاملة فإن ذلك من أسباب النفور، والمعاندة، والمكابرة، وحصول العنف، قال الله تعالى: « ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» (آل عمران: 159)، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش البذيء» رواه الترمذي. 4 - الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته لزوجاته، وأولاده، والتأسي بأخلاقه وآدابه، قال الله تعالى: « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً» (الأحزاب: 21). إن الناظر إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أزواجه يجد أنه جميل العشرة، حسن الملاطفة، وحسن الخلق، والمداعبة، والمزاح معهن، يعاملهن أجمل معاملة وأتمها. ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب نساءه، روت عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله» أخرجه الإمام مسلم، ونهى الأزواج عن ضرب النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: «يعمد أحدكم يجلد امرأته جلد العبد فلعله يضاجعها من آخر اليوم»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «بم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها»، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله»، ولما اشتكى بعض نساء الصحابة من ضرب أزواجهن لهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أولئك بخياركم»، وأوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان ((أي أسيرات)) عندكم ليس تملكن غير ذلك» الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك ((لا يبغض)) مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» أخرجه الإمام مسلم. أما ما يفعله بعض أرباب الأسر، والأولياء من المعاملة القاسية، واتخاذ الضرب الشديد مسلكاً للتأديب وتقويم السلوك في كل صغيرة وكبيرة، وجعله أول الحلول ويتعللون بحجج واهية ويزعمون أن حق الولاية والقوامة يمنحهم ذلك ويتخذون ذلك ذريعة للتستر على أعمالهم القبيحة، وتبرير أفعالهم الدنيئة، والخروج من تبعات أفعالهم المشينة فهذا دليل على جهلهم وحماقتهم وتأصل الشر في نفوسهم، فالإسلام أعطى الرجل حق القوامة على المرأة بما منحه الله وفضله من القوة، والصبر، وزيادة العقل والدين، والجَلَد وتحمل المشاق، والمسؤولية في السعي والكدح والدفاع عن المرأة، وطلب الرزق، والإنفاق على المرأة وقيادة سفينة الأسرة إلى بر الأمان، ورعاية شؤونها بالرفق، والإحسان، وتهذيب السلوك، والتربية الصالحة كما شرع الله تعالى، فليست القوامة والولاية تحكماً، وتسلطاً، وقهراً، واستبداداً بالرأي، وكل من له حق القوامة والولاية مؤتمن على من تحت يده فلا يفعل إلا بما فيه مصلحته، وتأديبه، والإسلام لم يبح ضرب المرأة إلا في حدود ضيقة حيث لم يرد الضرب صريحاً إلا في حالة نشوزها، وجعل الضرب آخر الحلول عندما لا ينفع الوعظ، والمناصحة، والهجر في الفراش، وكذلك جعل الإسلام مهلة ثلاث سنوات من حين أمر الأولاد بالصلاة إذا بلغوا سبع سنوات فإذا لم ينفع النصح والرفق معهم هذه المدة الطويلة فإنهم يضربون على تركها إذا بلغوا عشر سنوات. وحين شرع الإسلام الضرب في هذه الحالات المحدودة قيده بأن يكون ضرباً غير مبرح وغير ضارٍ، ضرباً للتأديب والتنبيه على الخطأ، ولا يقصد منه التشفي والتسلط والإيذاء واستخدام القوة والفضاضة في ذلك. وقد وازن الإسلام بين الحقوق والواجبات، فكما أن لكل من الزوجين حقوقاً فإنه عليه واجبات يجب القيام بها وأداءها بالمعروف وحسن المعاملة والعشرة حتى تدوم الألفة، والمودة، والسعادة، والاستقرار بينهما، قال تعالى: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف» (البقرة: 228). وأما هدي النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أولاده والأطفال فقد كانت معاملة تفيض رحمةً، وحناناً ومحبةً، وشفقةً، ورفقاً، وسيرته العطرة مليئة بكثير من المواقف المشرقة التي تعتبر نموذجاً فريداً في التربية والتعليم ينبغي لكل من المربين، والآباء، والأمهات، وأولياء الأمور أن يستضيئوا بها ويترسموا خطاها ويطبقوها في تربية أولادهم، فقد كان من محبته صلى الله عليه وسلم وشفقته بالأطفال أنه كان يقبل الحسن والحسين ابني بنته فاطمة رضي الله عنهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «أو أملك إن كان الله قد نزع من قلوبكم الرحمة» أخرجه الإمام مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تأتيه أمامة بنت بنته فيحملها وهو يصلي إذا قام رفعها، وإذا سجد وضعها، ويرى الحسن والحسين وهو يخطب على المنبر فينزل من المنبر ويحملهما، وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال: «من أحبني فليحب هذين» أخرجه أبو يعلى في مسنده وابن خزيمة في صحيحه وحسنه الألباني في الصحيحة، ومن رحمته بالبنات أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه» أخرجه الإمام مسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الأطفال آداب الأكل وما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا»، وعن أنس رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يبكي ويتأثر عندما يموت أحدهم، وكان صلى الله عليه وسلم يمازح الأطفال ويكنيهم لإعطائهم الثقة في أنفسهم واستمالة لقلوبهم، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يلعب بنغير ((عصفور)) فإذا جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا عمير ما فعل النغير»، وكان النبي إذا رجع من سفر استقبله الصبيان، وتعلقوا به لما يجدونه من شفقته ورحمته، فيحمل بعضهم بين يديه، وبعضهم خلفه، ويقبلهم تقبيل شفقة ورحمة، ويضمهم، ويشمهم، ويأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يفعلوا مثله. لذا فإن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ويتخلق بخلقه وسيرته العطرة مع أزواجه، وأولاده، وجميع الناس، وأن يعامل زوجته، وأولاده، ومن تحت يده معاملة وسطاً بين القسوة والشدة والتسلط، وبين الإهمال والتفريط في اللين، معاملة تتسم بالرفق والرحمة والشفقة مع توجيههم وتربيتهم تربية إسلامية صالحة وأطرهم على الحق أطراً. أما من عامل أسرته باللين، وفرط في تدليلهم، وتركهم بدون توجيه وتربية أو انشغل عنهم وأهملهم، وكذلك من أفرط في معاملتهم، وعاملهم بالقسوة، والشدة، والتسلط، ورفع الصوت، والضرب المبرح، واستعمل معهم الإيذاء بجميع أنواعه -وقد يكون ذلك لسبب بسيط يمكن تلافيه بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة- فقد خان الأمانة التي استأمنه الله واسترعاه عليها، وهو مسؤول أمام الله عن تضييع رعيته، روى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» رواه الإمام مسلم. لذا يجب على من وقع منه العنف ضد أحد من أفراد أسرته أن يبادر بالتوبة النصوح مما صدر منه، وأن يحسن إلى من أساء إليه ويستبيح منه، وأن يلجأ إلى الله بكثرة الاستغفار والنوافل لعل الله أن يقبل توبته ويبدل سيئاته حسنات، وأن يشكر الله على ما منَّ الله به عليه من الصحة في البدن، والقوة في الجسم، والقدرة على الحركة، ويعلم إنما يستمد ذلك من قوة الله وحفظه له فيستعملها فيما شرعه الله، ولا يتجبر على من تحت يده، ويتجاوز الحد بظلمهم، وغمط حقوقهم فإن العظيم الجبار القوي القهار قادر على سلبها منه وإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأما من وقع عليه العنف فعليه أن يصبر ويحتسب ذلك عند الله ولا يقابل ذلك بالقسوة والعنف فيعود عليه بضرر أعظم، والله سبحانه ناصره ومعينه على من ظلمه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» رواه مسلم، وقال تعالى: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم0وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» (فصلت: 35). وإذا لم يرتدع مرتكب العنف بالإحسان إليه، ومناصحته بالموعظة الحسنة فإنه يجب تبليغ الجهات المختصة سواء من قبل من وقع عليه العنف، أو من قبل من يعلم حاله فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن إنكار المنكر ونصرة المظلوم، وحجز الظالم عن ظلمه . وإننا في هذه البلاد المباركة نلمس الجهود المباركة والإنجازات العظيمة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية للقضاء على العنف الأسري، ومعالجة آثاره، وحل مشاكله وتلقي البلاغات عن ذلك، وتقديم الخدمات الطبية والاجتماعية لضحايا العنف الأسري، ومتابعتهم وحمايتهم مستقبلاً بالتنسيق مع الجهات الأمنية والقضائية والحقوقية، وإقامة الندوات والمحاضرات التي تعنى بتقديم الحلول المناسبة لقضايا العنف الأسري، وبيان أضراره، وتوعية الناس بأهمية الأمان الأسري وفوائده، وفي طليعة ذلك ما تكرم به خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – من إنشاء برنامج الأمان الأسري الوطني تحت إشراف الشؤون الصحية بالحرس الوطني، فجزاه الله على هذا العمل المبارك، ودعمه السخي له، وعلى ما يقدمه للإسلام والمسلمين في جميع المجالات أعظم الجزاء وأوفره، ورفع منزلته في الدنيا والآخرة، وبارك له في ماله، وعمره، ووقته، وأعماله، وأقواله. كما أنني أشكر القائمين على هذا البرنامج وفي مقدمتهم صاحبة السمو الملكي الأميرة صيته بنت عبدالعزيز آل سعود، رئيسة برنامج الأمان الأسري الوطني، ونائبتها صاحبة السمو الملكي الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وجميع العاملين به، وأسأل المولى جل وعلا أن يجزيهم على هذا الجهد المبارك، والإنجاز العظيم، والدعم المتواصل أحسن الجزاء وأوفره، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم يوم لقائه، وأن يمدهم بعونه وتوفيقه، ويعينهم على أداء هذه الأمانة العظيمة، والمسؤولية الكبيرة بما يرضي الله تعالى، كما أسأله تعالى أن يحفظ على هذه البلاد المباركة دينها، وأمنها، واستقرارها، وأن يعزها بعز الإسلام، ويكبت أعداءها، ويرد كيدهم في نحورهم، إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،، المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ