كنت أشاهد الأخبار، بعد أن تناولتُ دواء ارتفاع الضغط؛ حتى أخفف من آثار ما أسمع وأشاهد من مذابح، ومآسٍ، وتدمير، وخيانات، وتقلبات للمواقف، ورؤية وجوه الساسة وهم يضحكون من وراء الأقنعة، وكلهم يعضّون الأنامل من الغيظ على بعضهم.. وهالني ما شاهدته من قيام مجرمي داعش بالدخول إلى متحف الموصل، وتدمير آثاره، ونهب محتوياته، وتذكرت المشهد ذاته إبان سقوط بغداد، وكيف تركت القوات الأمريكية متحف بغداد مباحاً للناهبين. إنّ الأيادي الآثمة التي جاست خلال متحف بغداد هي ذاتها التي تتلف، وتدمر، وتنهب، وتحقد على التاريخ، ولربما تغيرت الأقنعة، إلا أن الوجوه الكالحة هي ذاتها لم تتغير. لقد أحرق الإرهابيون الحياة في الطيار الكساسبة، وأحرقوا مزارع القمح في ديالى، وها هي أيديهم الباغية تتسلل للتاريخ في ردهات متحف الموصل؛ لتتلف آثاراً تحكي تاريخ البشرية منذ عهد الآشوريين قبل آلاف السنين. إن هذه التماثيل لم تكن في المتحف للعبادة كما زعم الضالون، بل هي شواهد على تاريخ البشرية، الذي انبثق من شمال العراق. فبعد أن رست سفينة نوح عليه السلام على قمة جبل الجودي انتشرت ذريته في نينوى وما جاورها، ثم انحدروا نحو بابل وجنوبها، وحفظ هذا المتحف معالم حقبة موغلة في تاريخ البشرية، وجاء هؤلاء الضالون يكذبون على الله ورسوله وعلى تعاليم الدين الإسلامي السمح الذي أمر المسلمين بعدم هدم الكنائس رغم عدم خلوها من التماثيل، وكذلك الأديرة التي للعبادة، فما بالك بمتحف لم يخصص إلا لعرض تاريخ البشرية، ولم يكن مكاناً للعبادة. إن الركون إلى الفتاوى المتشددة إنما هو ميل لهوى الأنفس المريضة، التي تبحث عن كل ما يستفز الناس، ويستعديهم، ويثير غضبهم، وهذا هو الذي أقدم عليه الضالون المضلون، من تدمير كل ما فيه حياة قائمة، أو تاريخ لحياة سابقة. والذي شاهده العالم في ردهات متحف الموصل إنما هي أحجار لا قيمة لها، تحمل فؤوساً ومعاول لتهوي بها، وتحطم أحجاراً لا تُقدّر بثمن، فكان البقاء هناك للأسوأ، وليسجل التاريخ أن المغول والتتار ينام ثأرهم وحقدهم على الحضارات، ولكنه لا يموت؛ فبين فينة وأخرى يستيقظ، وقد استطالت أنيابه، وتمددت مخالبه، فيكون مهد الحضارات مرتع إجرامه، ومذبح قربانه.