اقتربت الشمس من مواراة قرصها القسطلي عن الأعين الناظرة إليه ربما حياء أو انتهاءً لعملها ، لكن غروبها هذا اليوم ليس كغروبها كل يوم في أنفس الناس ، كان أكثرهم بالأمس لا يعبؤون بها أغابت أم طلعت ! إلا أن الكل هذا اليوم ينتظرون نهارهم أن يتصرم وينقضي ليبدأ فرحهم بالامتثال لطاعة ربهم ، و يروون الأجساد المتعطشة لمادة حياتها . هذا اليوم هو الأشد حراً وعطشاً ، لأنه أول الأيام وما عداها لا يكون الإحساس بالعطش وربما الجوع إلا قليلاً ، بالتأكيد ربي لم يكتب علي الصيام كما كتبه على الأممقبلي إلا ليجعلني أتقيه بهذا الصوم ، أتذكر مسكيناً جائعاً مثلما أنا جائع الآن ، لأحس بمعاناة الجوع عند المساكين والفقراء ، ولأتخفف مما يصيب جسدي بالفتور والنوم عن الصلاة المفروضة ، وبما أني أصوم عن المعصية كما أصوم عن الأكلة والشربة ، لهذا أنا أتخلص من الذنوب وأراجع نفسي الأمارة بالسوء ، وإذا صمت عن الطعام فإن بدني يرتاح بعض الوقت من الأرطال ! التي أقذفها فيه كل يوم في كل وقت قبل رمضان . رمضان يغير حياتي تغييراً جديداً فريداً ، وقتي أصبح مرتباً بشكل جيد بحيث أجعل لروحي نصيباً كما أجعل للعمل والمادة نصيباً ، آكل وأشرب في وقت معين وأستيقظ وأنام في وقت محدد ، للعمل وقته وللعبادة وقتها ، صرت طيب النفس ، لا أغضب ، أسامح من أخطأ في حقي ، وأراجع نفسي قبل التلفظ بالكلمة ، هل هي في مرضاة الله أم تسخط رب العزة عليّ ، وصرت أتلذذ بما أصنع لأني أنا من يقود النفس وأضبطها وأسيرها كما أشاء وليس كما تشاء هي .. أصبحت ملاكاً بحقّ ، وأحس بأني أحقق الإنجاز تلو الإنجاز على نفسي بأن أقوم للصلاة وأصطف مع المصلين للتراويح ولا أخرج إلى بعد انتهاء الإمام ، وأحسست في قلبي بما يحس به الخاشع بل والبَكَّاء وهو يتلو القرآن ، وأصبحت أحس بنسيم الإيمان البارد وهو يمس الفؤاد الملتهب بالبعد وكأنه نعومة القطن وهي تلامس خداً ناعماً .. آه لا ، لا أريد أن أصحو من هذا الحلم الجميل ، حلم كحقيقة وحقيقة كحلم ، ليت شعري لماذا لا يستمر هذا الحلم أكثر ، لا أريد أن أستيقظ ، أرجوكم لاتوقظوني منه للواقع المرير بعده . أ. حمود الباشان