حماري وقرة عيني. كم اشتقت إليك. أكتب إليك لأطمئنك على أحوالي. إنها على ما يرام يا صديقي. قلت لك الأسبوع الماضي إنني كنت موظفا مثاليا. لكن «المثالية»، غالبا ما تنقلب على صاحبها. فصلوني من الوظيفة. لكن لا تقلق. لقد عثرت على وظيفة أخرى. أنا الآن سائق تاكسي. اسمع. أريد أن أقص عليك قصة راكب التقيته بالأمس، صعد إلى التاكسي وراح يصرخ في وجهي: بسرعة الله يخليك.. تأخرت. يا أخي ادعس شويه، قرب موعد الدوام.. صفي الطبلون. - طيب طيب. على أيش مستعجل؟ راح الشاب يا حماري ساعتها ينفث نفسا من سيجارته ويحكي: شوف يا الحبيب. باين عليك واحد سواق تاكسي غلبان، زي حالاتي يعني. وما دام الأمر كذلك، فأعتقد أن «المتعوس التم على خايب الرجا»، ومن حقك علي أن أشرح لك. اسمي جابر. خريج كفاءة. لا تتلاءم وتخفي ضحكتك الساخرة، ففي قريتنا خريج الكفاءة له شنة ورنة. شي ملوي هدومه يعني. ما أطول عليك. المهم أنني نلت الكفاءة وأصبحت واحدا من مشاهير القرية. حلم أي فتاة. مثالا يحتذى. يعني إذا أرادت امرأة أن تدعو دعوة «جامدة» لولدها قالت: «روح يا ولدي الله يوصلك مواصيل جابر». إذا أرادت خاطبة أن تسيل لعاب فتاة قالت لها: «والله لأجيب لك عريس زي جابر». وهكذا يعني. المهم.. أنني حصلت على «الشهادة الكبيرة» – وهذا هو اسم شهادة الكفاءة في قريتنا - وبدأت التفكير مليا في وظيفة تليق بوضعي الاجتماعي. لم تكن مهمة التفكير صعبة للغاية خاصة أن أهالي القرية كانوا يشاطرونني هذه المهمة.. واحد يبغاني أطلع تاجر. آخر يقترح أن أتوظف في شركة كبيرة. ثالث يقول إنه رأى في المنام أن واحدا من أبناء قريته أصبح مفتشا في الوزارة، ولا بد أنه أنا. ومرة – تخيل- قالت لي خالتي: «اش رأيك تطلع عضو في المجلس البلدي؟. وظيفة محترمة وما يبغالها. وترى مريييحة. يعني كبر المخدة». نعم ياختي!!. الحاصل أنني قررت أخيرا أن أوصد باب الاقتراحات قبل أن يأتي أحدهم ويطالبني بأن أتقدم إلى العمل في السلك الديبلوماسي. يقولون، «مد رجولك على قد لحافك». لكن هذا المثل الذي حفظونا اياه في القرية تغير فيما يبدو. فجأة أصبح بعد أن سافرت إلى المدينة لأقدم على وظيفة: «مد أحلامك على قد شهادتك يا الحبيب». في البداية كنت أقول في نفسي: «يبدو أنهم في المدينة لا يحرفون التقاليد والعادات وحسب، بل وحتى الأمثلة الشعبية». كنت كلما تقدمت بملفي إلى شركة أو مؤسسة، يرمقني الموظف المختص بنظرة «أبو فوق تحت» ويقول لي: «مد أحلامك على قد شهادتك يا الحبيب». دعني أسألك: هل هناك معهد لتدريب الموظفين يعلمونهم فيه هذه الجمل؟ يا أخي كأنهم ببغاوات، لا يرددون إلا جملة واحدة: «مافي».. «للأسف».. «كان ودي أخدمك».. «خلي رقم تلفونك». تعبت. لم تعد لي قدرة على فعل أي شيء بعد أن تكسرت رجلاي وأنا أركض بملفي من شركة إلى أخرى، دون جدوى. هل شاهدت فيلم «فورست جامب»؟. طيب. لا بد أنك إذا تذكر مشهد صديقته وهي تقول له: «رن فورست.. رن». كان فورست يركض ويزداد ثراء ونجومية. أنا.. كنت أركض وأزداد تعرقا وإحباطا. كان سقف المطالب والأحلام يهبط درجة تلو أخرى، يوما بعد آخر: مدير. طيب نائب مدير. ماشي.. موظف محترم. خلاص موظف عادي. ياهوه موظف مو محترم حتى. يا عالم أي شي، بس وظيفة والسلام. ضاقت بي الدنيا. نشف دمي وأنا أركض وأركض وأركض. لو أدخلتني عصارة مولينكس ما نزلت مني قطرة دم واحدة. هل تصدق؟ مرة شاهدني مجموعة من الشباب وأنا أركض فأخذوا يرشقونني بتعليقاتهم السمجة: «احرق القاز.. طب عبي بنزين.. الأخ ناوي ينظف الكربون؟»، وهكذا. - والآن.. هل وجدت وظيفة؟ يبدو أنك لم تكن تستمع إلى ما كنت أقوله.. هل أنت غبي؟ قلت لك. هناك مدمن مخدرات. مدمن حشيش. مدمن سجاير. أنا أصبحت مدمن ركض. هذه هي وظيفتي. أصحو مبكرا. آخذ دش ساخن بارد مو فارقة. أتأبط ملفي العلاقي وأركض في الشوارع والأزقة. إذا تعبت لوحت إلى أي تاكسي كما فعلت معك. الآن نزلني. قلت لك توقف. تأخرت عن الدوام. ولى هاربا دون أن يدفع الأجرة يا حماري.. لكنني شعرت بالحزن لأجله لا سيما أنه راح يركض بعيدا وهو يزمجر: برم برم برم.. بررررررووووووومممم. حماري الغالي. يبدو أنني لست وحدي من يعاني في هذه الحياة. لكنني على الأقل ما زلت أحتفظ بعقلي. آمل أن تدعو لي.. سلامي لأصدقائك الحمير.