من يتابع المشهد الأوروبي لن يفاجئه التباين في السياسة الخارجية لدوله. فالسياسة الخارجية لأهم دول الاتحاد فرنسا تختلف في العديد من المواقف مع السياسة الخارجية الألمانية والسويدية والإيطالية. فلا توجد سياسة خارجية موحدة للاتحاد تجاه العديد من القضايا الخارجية. وما علينا سوى تذكُّر المواقف الأوروبية من الغزو الأمريكي للعراق وملف انضمام تركيا إلى الاتحاد لنرى البروز الواضح لهذا التباين. الاختلاف في المواقف السياسية الخارجية لم يمنع قيام وحدة اقتصادية أوروبية؛ أنشى البنك المركزي الأوروبي، وصكت العملة الموحدة الوحدة (اليورو) وسمح بانتقال الأموال والأفراد، وطبقت اتفاقية ماسترخت التي وقعت في فبراير 1992، ودخلت حيز التنفيذ نوفمبر 1993. وهناك صناعات ضخمة قائمة على الشراكة الأوربية (ايرباص لصناعة الطائرات، استريم لصناعة الأقمار الصناعية، ويوتلسات كمشغل للأقمار)، وأصبحت الوحدة الاقتصادية ركيزة العامل الأوروبي المشترك، رغم التباين في المواقف السياسية، وهو إدراك أوروبي واعٍ، أن الاقتصاد هو ما يمنح الكيان الأوروبي وحدته ونفوذه في ظل نشوء القوى الجديدة على المسرح الدولي روسيا والهند والصين. فالاتحاد السوفيتي انهار بسبب العامل الاقتصادي، حيث لم ينمُ الناتج المحلي منذ عام 1954 حتى انهياره في عام 1991. عندما تنظر إلى عالمنا العربي؛ بحثا عن تجربة اقتصادية عربية مشتركة فستجد أن أبرزها على الإطلاق المؤسسة العربية للاتصالات الفضائية (عرب سات) التي تأسست في عام 1976، واستطاعت هذه المؤسسة، التي تسهم فيها 21 دولة عربية، أن تحتل المرتبة التاسعة عالميا من حيث الإيرادات، متفوقة بذلك على العديد من مشغلي الأقمار الآسيوية والأوروبية. وقد أشار الأستاذ عبدالرحمن الراشد في زاويته اليومية في جريدة الشرق الأوسط 17 أبريل 2007، إلى نجاح نموذج (عرب سات) في العالم العربي، وهو ما أكده الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء المصري في افتتاح معرض أفريكا تليوكوم الذي أقيم في القاهرة 2008، واعتبره الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى نموذجا يجب الاحتذاء به. حجر الزاوية في نجاح (عرب سات) أنها تدار وفقا للمعايير الاقتصادية والتجارية ضمن بيئة تنافسية. وقد بادرت هذه المؤسسة؛ إيمانا منها بمسؤوليتها الاجتماعية تجاه وطنها العربي بتقديم أسعار مخفضة لأسعار الاستئجار للسعات الفضائية على أقماره التي تغطي منطقة الشرق الأوسط وأوروبا للقنوات التعليمية؛ بهدف تشجيع إنشائها لخدمة الأفراد في العالم العربي والمهاجرين العرب في أوروبا. ومن المفترض أن تستفيد وزارات التعليم والإعلام العربية، ورجال الأعمال المؤمنون بمسؤوليتهم الاجتماعية تجاه وطنهم العربي، من مبادرة (عرب سات). إن نموذج (عرب سات) بالإمكان تطبيقه في قطاعات: الكهرباء والنقل والزراعة والصناعات الغذائية، وغيرها.. فالعالم العربي يمتلك رؤوس الأموال، والمساحات الجغرافية الشاسعة، والأيدي العاملة، والقدرات الإدارية والفنية، والقوة الشرائية، أما التكنولوجيا فليست عصية على الاستيراد. إن الاقتصاد ركيزة الكيانات القوية؛ ما جعل الصين باحتياطها البالغ 2 تريليون دولار أمريكي يتجاوز نفوذها محيطها الجغرافي ليصل إلى القارة السمراء. الأزمة المالية العالمية أكدت، أن الاستثمار في المنطقة العربية أكثر أمانا، وما علينا سوى أن نرى خسائر المستثمرين العرب في الأسواق الأوروبية والأمريكية، خاصة في أسواق المشتقات المالية، لنتأكد أن إنشاء المشاريع الاقتصادية العربية المشتركة ضرورة ملحة وليس تنظيرا اقتصاديا يتعذر تطبيقه على أرضية الواقع. الاقتصاد الذي جعل الأوروبيين يؤمنون بالمصير المشترك، رغم أن التاريخ شاهد على حقب مترعة بالدماء بينهم، قادر على أن يوحّد العرب بوجد الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا، القواسم المشتركة الأزلية.أليس ذلك ممكنا؟