»أقيم في هذه الحجرة منعزلة منذ أن قدمت إلى هذه القرية.. فلا شيء يشدني إليها.. كل شيء فيها يبعث الملل في داخلي.. يبعثرني كما هو حال الحجرة التي تشاركني فيها زميلتي.. فالناظر إلينا يظن أننا نشترك في كل شيء.. في حين أننا نتقاسم كل شيء حتى الوحدة!.. وفي كل ليلة تأتي أمنِّي النفس بالرحيل.. لأستيقظ وأنا لا أزال هنا مغتربة عن أهلي من أجل العمل«. الحسرة والمرارة بهذه العبارة التي تفيض بالحسرة على واقع الحال، وتجسد الشعور بالمرارة بين معلمات سعوديات، اغتربن عن أهاليهن وبلادهن من أجل العمل؛ تبدأ »عالية« (معلمة) حديثها إلى »شمس«، وهي جالسة على مقعدها، أمام مكتب الحجرة المبعثر، الذي لا يمكنها أن تجلس عليه إلا ليوم واحد في الأسبوع؛ وذلك لتحضير درسها للطالبات. أما إن رفضت عالية، فإن عليها أن تسهر طوال الليل.. وهي دائما ما تختار الأصعب في حياتها، كونها لن تستطيع النوم في الحالتين.. فبعض الطالبات والمعلمات اللاتي يقمن معها، يسهرن ويحدثن ضجيجا بأشكال وصور مختلفة.. تارة بالمذياع وتارة بصوت غسالة الملابس.. فضلا عن أصواتهن، وأصوات الأطباق التي تغسل في المطبخ، إذ إن بعضا ممن عليهن الغسيل، يفضلن أن ينجزن عملهن بالليل. أحلام وردية تمسح وفاء القحطاني »معلمة في شمال السعودية« بيمناها على سطح المكتب، وهي تتذكر تلك الأيام التي كانت تقضيها بين أفراد أسرتها.. وتتحسر على تلك الأحلام التي رسمتها عن هذا المكان.. فقد كانت تتوقع أنها عندما تعيش وحدها، مع مجموعة من الفتيات اللاتي في مثل سنها وظروفها، فسيكون الوضع العام جيدا، إذ لم يخطر ببالها، ولو لحظة واحدة، أنها ستتشاجر معهن، أو أنها ستجد من يتكل عليها في كل شيء، بعد أن كانت تتكل على والدتها والخادمة. كانت وفاء تظن أن الاغتراب للعمل، سيكون مختلفا وممتعا.. كما كانت تسمع عنه من قبل؛ تقول وفاء: »كنت طالبة بالكلية في إحدى القرى المجاورة في جنوب السعودية«. وتضيف: »هناك ينتشر اغتراب الفتيات وخروجهن من أجل العمل«. وتذكر أن »التي لا تتغرب للعمل يظن الناس هناك أنها غير قادرة عليه، أو أنها ليست أهلا للثقة«. وتوضح وفاء، أنها اكتشفت ومن خلال تجربتها، أنها كانت مخطئة. وتبرر ما كانت تسمعه بالحظ؛ وتقول: »لم أجد عملا كصديقاتي وبعض قريباتي«. وتظن وفاء أن بعض »الفتيات يحسنّ التصنع بالسعادة؛ حتى لا يقلق عليهن أهلهن، فيعيدوهن وهم بحاجة لأن تعمل«. الاختلاف »ج.ع« التي تشاطر صديقتها الغرفة ذاتها، تقول: »دائما ما أجد صديقتي وفاء حزينة لدرجة كبيرة«. وتضيف: »دائما ما أمنِّيها بقولي: غدا ستعتادين على الوضع«. وتبرر لها ذلك بأن »المعلمات الجدد اللاتي لم يسبق لهن العمل مغتربات، أو لم يغتربن لأجل الدراسة من قبل، يمضين وقتا أطول من غيرهن؛ حتى يعتدن على بيئة أخرى، تختلف عن جو الأسرة والأهل«. وتؤكد »ج.ع«، أنها عانت من ذلك عندما كانت في السنة الأولى من رحلة الاغتراب؛ وتقول: »سافرت وحدي إلى منطقة الباحة؛ لإكمال دراستي، لكنني لم أستطع الإقامة في سكن الطالبات؛ وذلك لكثرة المشكلات مع الموظفات«. وتضيف: »فكنا نحن الطالبات نستأجر شقة، مع بعض قريباتنا؛ حتى انتهاء فترة الدراسة كاملة«. وتؤكد: »كان التفاهم يسود علاقاتنا بقريباتنا«. وتصمت قليلا، ثم تقول بصيغة التقرير: »لا مقارنة بين وضعي هنا ووضعي هناك«. وتوضح: »يغلب على الشقة التي أسكن فيها الآن، الاختلاف، فلا شيء يبدو مشتركا عدا اللهجة«. ماذا يجمعنا؟ وتوضح »ج.ع«، أنهن لا يجمعهن سوى السكن الذي يستأجرنه جميعا؛ ليتمكنّ من دفع الأجرة، وتحقيق الإحساس بالأمان؛ »فالحارس الذي يدفعن له أجرة الحراسة، ليس ملتزما معهن، وإن ادعى أنه لا يترك مكانه«.. وتضيف، إنهن عندما يحتجن إليه ويتصلن عليه، ليجلب أشياءهن من السوق أو المكتبة، يكتشفن أنه ذهب إلى مكان يجهلنه. وتؤكد »ج.ع«، أن الحارس ينام في أحد الممرات في قرية أخرى، ويتركهن. وتضيف، إنهن عندما يبلغن أهاليهن بذلك، يدعي بأنه يذهب ليعزي في ميت، فيتأخر؛ ما يجعل ذويهن لا يتجاوبون مع شكاويهن؛ لأنه يحسن خلق الحجج المقنعة. تنهدات وضيق تتنهد »ج.ع«؛ لتخطف منها صديقتها الثالثة سماعة الهاتف؛ وتقول: »أدخل إلى الشقة حاملة تموين الشهر الغذائي«. وتضيف: »لكنهن يتهمنني بأنني لا أشتري الشيء المناسب، عندما يحين دوري في الشراء«. وتوضح، أن المطبخ ليس مجهزا بالكامل؛ «ما يجعل أمر طبخ بعض الأطعمة ضربا من الخيال«. وتذكر أن هذا يدفعهن إلى الكتابة؛ »حتى إذ ما أخطأت واحدة في طهي الطعام حاسبنها«. وتؤكد: »في الواقع لا تبدي إحدانا لهن اهتماما«. وتذكر تلك الصديقة: »نحن إما نحضّر دروسنا أو نستمع إلى المذياع«. وتضيف: »في كل مرة نحتاج إلى حكم بيننا؛ لأن حدوث المشكلات لا يوجد أسهل منه«. وتؤكد أنها من الأمور الحاصلة والمعتادة في شقة لا يسكنها سوى فتيات لم يتجاوزن ال25 من عمرهن، ويشعرن بضيق المكان والنفس، إذ لا يخرجن إلا بقدوم أهاليهن في العطل الأسبوعية لأخذهن. أين الأمان؟ وبينما هي تستمع إلى المذياع، تنظر خلسة من خلف ستائر الحجرة، التي تطل على مكان الحارس؛ لتتأكد من وجوده.. فتراه ينظر صوب النافذة تارة وإلى ساعته تارة، وكأنه يسأل نفسه: متى تطفأ أنوار الحجرة؟.. يفكر الحارس قليلا، وهو يمسح لحيته بيده لبرهة.. ثم يمضي بعدها مبتعدا عن سكنهن.. ليبقى السؤال: من يعطي الأمان لهؤلاء الفتيات؟!