لا تعني وفاة أحد الأزواج انقطاع العلاقة الزوجية وموت الوفاء، فهنالك العديد من القصص التي تدل على وفاء الرجل لزوجته من خلال واجب اجتماعي وعمق ديني عكسته قصص واقعية ومشاهد حياتية. وقد تجاوز الأمر مسألة الوفاء الحياتي، وإنما سار باتجاه طويل من وفاء جسدته سنوات لاحقة لوفاة شريكة العمر، فمن عدم الزواج إلى الصبر على العيش مع الزوجة رغم استحالة الإنجاب إلى زيارة القبر وذكر خير مستديم وصدقات على النية بعد الموت، وحزن لا ينقطع في بعض الحالات. يقدم «س. ع» الذي يبلغ من العمر 37 عاما نموذجا خاصا في الوفاء لزوجته التي رحلت عنه إلى الدار الآخرة، فهو لم يتزوج بعد رحيلها، بعد أن قضت في حادث مروري بصحبته وكان ذلك قبل نحو تسع سنوات «أعتقد أنني كنت السبب في وفاتها مع إيماني الكامل بالقضاء والقدر، فقد طلبت منها الخروج للتنزه، وقد عارضت ذلك لشعورها بإرهاق ولكن مع إلحاحي عليها وافقت، وعند خروجنا حدث لنا حادث مروري أدى إلى وفاتها مباشرة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحس بتأنيب الضمير ووفاء لها آثرت عدم الاقتران بغيرها». إيجابيات الوفاء الوفاء قيمة إنسانية يتمتع بها كثير من الناس، فالحياة المشتركة تفرض معايير تحفظ الود والعشرة، ويبقى ذلك طويلا دون أن يتمكن من النسيان أو يجد له سبيلا. «إبراهيم. س» البالغ من العمر 45 عاما له تجربته مع الوفاء لزوجته التي كانت عقيمة ولا تستطيع الإنجاب «استمر الوضع لأكثر من 20 عاما، وكل منا راض بما قسمه الله لنا، ولم أفكر في الزواج طوال تلك الفترة، وبعد مرور تلك الفترة الطويلة فوجئت بطلب زوجتي بأن أتزوج من أخرى لكي أنجب، فرفضت الفكرة في بادئ الأمر، ولكن مع إصرارها على ذلك رضخت لطلبها، وبالفعل تزوجت وأنجبت طفلين وتعاملهما زوجتي السابقة كأبناء لها». فقدان كل شيء فقد العم مفتاح جبريل، يبلغ من العمر 65 عاما، زوجته قبل خمس سنوات وعاشا معا عشرة أضعاف هذه الفترة «عشنا معا لمدة تفوق الخمسين عاما، ولم أتزوج بغيرها»، ويشير إلى أن حالته ساءت كثيرا بعد فراق زوجته، فقد كانت كل شيء في حياته، وعاشت معه الحلوة والمرة «بفقدانها فقدت طعم الحياة، فكل مناسبة تأتي لا بد أن أذهب إلى قبرها لأقدم لها التهنئة مثل الأعياد وغيرها»، ويضيف أنه لا يفكر في الزواج مطلقا بعدها، لأنه سيظلم من سيتزوجها فالحب كله قد ذهبت به المرحومة. استحالة العشرة فقد رجل الأعمال «س. م» زوجته قبل أربع سنوات إثر عملية جراحية قامت بها، ولا يزال يعاني آثار الرحيل الذي يشعره دوما بالوفاء لشريكة العمر «أحسست أنني فقدت عقلي، فأنا لحد الآن لا أصدق ما حصل، ولكن ما ألبث أن أستغفر وأرضى بحكم الله، فقد كانت زوجتي كل شيء في الحياة، وهي التي ساعدتني في تجارتي إلى أن أصبحت من رجال الأعمال المعروفين، ووفاء لها قررت عدم الزواج رغم إصرار والدتي وإخوتي على زواجي وبأسرع وقت للخروج من الحالة التي أصبت بها بعد وفاتها، رحمها الله، وفي نظري أن الوفاء لا بد أن نقابله بالوفاء، فقد كانت وفية معي طوال مشوار حياتنا، فكيف لا أكون وفيا لها بعد مماتها؟». عاطفة صادقة وترى «أم حنان» أن صفة الوفاء موجودة في قلب كل منهما، الرجل والمرأة « كلاهما وفي للآخر، فأنا أعرف رجالا من أقربائنا لم يتزوجوا بعد وفاة زوجاتهم، فما بالك بمرض أو غيره من أسباب وظروف حياتية صعبة» وتضيف «إذا كان الحب حقيقيا وموجودا في قلب أي منهما حتما سيبقى أي منهما وفيا للآخر مهما بلغت الظروف والأزمات في الحياة». وتشير «أم حنان» إلى أن المرأة بطبيعتها عاطفية أكثر من الرجل، وهذا ما يجعل صفة الوفاء مرتبطة بالمرأة أكثر من الرجل، وكم من امرأة رفضت أن تتزوج بعد زوجها لأن المرأة بطبيعتها تشعر بأنها خلقت للعبادة، ومن ثم لزوجها، وحين يتوفى لا تجد هناك رجلا يستحق أن يكون مكان زوجها الأول. المرأة أكثر وفاء وتشدد «هند. ب» على أن وفاء المرأة للرجل أكبر بكثير من أي شيء في الدنيا «المرأة في حاجة إلى الرجل كونها لن تشعر بالأمان إلا معه، ولذا لعلني أستشهد بواقعة مؤثرة تدل على قوة وفاء المرأة، حيث مازالت المجالس النسائية تردد قصة امرأة بعد أن أدخل زوجها إلى السجن بسبب ديونه قامت بعمل يستنقص من كرامتها حين أخذت تدور بيوت أقرباء وغرباء كمتسولة، وكانت تجيد الشعر، وقالت عددا من القصائد التي لقوة تأثيرها ترددت في عدد من المجالس حتى يومنا هذا، وقد وصلت القصيدة إلى أحد المسؤولين والذي قام مشكورا بتسديد ديون زوجها». برهان صادق وترى «ر. ش» الطالبة في التعليم الثانوي أنها شاهدة على وفاء أخيها لزوجته طوال حياتها وبعد مماتها، ولم تشاهد وفاء بهذا الشكل «بعد مرور 15 سنة على زواج أخي وإنجابه ثلاثة أبناء مرضت زوجته بمرض السرطان، وظل يراجع بها جميع المستشفيات، وطرق كل الأبواب لمدة 11 عاما، ولكن توفاها الله بسبب ذلك المرض، وما زال أخي يذكرها في كل وقت على الرغم من مرور الزمن الطويل، ورفض جميع العروض التي قدمت له للزواج حفاظا للود». حفظ المودة لهذا النوع من الوفاء الذي يحضر في غياب الأحبة ومواراتهم الثرى دلالاته العميقة ومؤشراته الإيجابية التي تكشف عن شخصيات تمتلك مخزونا كبيرا من الإخلاص والقيم النبيلة. أستاذ علم الاجتماع الطبي بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور عبدالله باخشوين يستقصي قيمة الوفاء في الإطار النفسي «وفاء الرجل للمرأة بعدم الزواج بعد وفاتها دال على حفظ الود والعلاقة الحميمة التي كانت تجمعهما، كما أنه دليل علاقة رومانسية تجمعه بزوجته، فهو يعيش في جو رومانسي عاطفي حتى بعد موت الزوجة، ولا يزال رهن تلك العلاقة وتلك الزوجة، ويعتقد أنه لا يوجد من يعوضه عنها، كما لا يستطيع أن يتصور نفسه يعيش مع غيرها، فلا يقدم على الزواج من أخرى وفاء لتلك المرأة، وهناك أنواع من الرجال في حالة عدم الإنجاب لا يقدم على الزواج من أخرى مراعيا لمشاعرها وحفاظا للود وعدم جرحها مهما كانت الظروف». ويشير باخشوين إلى أن إقدام الرجل أو المرأة على الزواج بعد رحيل شريك العمر لا يدل على عدم الوفاء، ولكن هناك ظروف اجتماعية واقتصادية وحياتية تحتم على الطرفين الزواج من أخرى مهما بلغ وفاؤه للسابق. حب حتى آخر رمق من جانبه، يوضح المشرف على مقبرة حواء بجدة أحمد جوري إشارات وعلامات الإخلاص والوفاء من خلال معايشته ومشاهدته للزوار «هناك أشخاص كثيرون يزورون ذويهم المدفونين في المقبرة باستمرار، وأكثر الأوقات التي يقدمون فيها إلى المقبرة بعد صلاة الجمعة ويتجاوز عددهم المائة رجل». ويضيف الجوري «هناك مواقف مؤثرة لوفاء الرجل للمرأة بعد وفاتها، ومنها قصة الرجل السبعيني الذي تعود أن يزور زوجته كل يوم اثنين حتى أصبح معروفا لدى عمال المقبرة لدينا هنا، فإذا وصل إلى المقبرة للزيارة يأخذ بيده أحد العمال ويقوم بإيصاله إلى قبر زوجته حيث لا يستطيع المشي الكثير، ويظل بجانب زوجته ما يقارب نصف الساعة إلى الساعة في بعض الأحيان يقضيها بين دعاء وبكاء». يقول الجوري سألته عن سر هذه العلاقة القوية فأجاب «لقد قضينا حياة جميلة معا، لفترة تزيد على ال 40 عاما، مع العلم أنها لا تنجب، ومع ذلك لم أفكر بالزواج من غيرها رغم أن حالتي المادية ممتازة، وفي آخر أيامها كانت في المستشفى ولا تستطيع الكلام وكانت الأجهزة تغطي وجهها، وفي آخر لحظة لها وكنت بجانبها لا أتركها لحظة واحدة رفعت الأجهزة من على وجهها وأمسكت بيدي، وقالت لي لا تنساني ورفعت نظرها لي ثم قالت «أحبك» وبعدها انتقلت إلى رحمة الله وكانت آخر كلمة سمعتها منها». ويروي الجوري قصة أخرى لشاب تزوج حديثا ولم يستمر زواجه سوى سنتين ونصف سنة وبعدها ماتت زوجته، وظل هذا الشاب يزورها كل يوم جمعة ولم يتخلف عن زيارتها قط، وقد سألته ذات مرة عن المرأة التي يزورها، فأوضح لي أنها زوجته، وقد كان يحبها حبا جما، ولا يتخيل فراقها عنه، ولذلك فهو يزورها كل أسبوع .