بالنظر إلى قدسية مكةالمكرمة، فإنها ينبغي أن تكون أكثر البلاد أمنا وأمانا لسكانها وزوارها، غير أن كثيرا من العوامل النفسية التي ترتبط بمخالفي نظام الإقامة ومجهولي النسب تسببت في ارتفاع مستويات الجريمة بالعاصمة المقدسة مما يشوه تلك القدسية ويخل بالمعادلة الأمنية فيها. ولتقليل معدلات الجريمة وخفضها للحدود الدنيا باعتبار أنه من الصعوبة القضاء عليها نهائيا لأن النفس أمارة بالسوء أطلق مشروع «مكة بلا جريمة» ليسهم المجتمع بجانب الجهات الأمنية في بسط الأمن في أنحاء المدينة الطاهرة وغسلها سلوكيا من الجريمة. نائب رئيس جمعية مراكز الأحياء بمكةالمكرمة الدكتور هاشم حريري يستقصي انطلاق مشروع «مكة بلا جريمة»: «انطلق مطلع عام 1430ه، ويهدف بالدرجة الأولى إلى توعية شرائح المجتمع بمكةالمكرمة بحرمة البلد الأمين بأهمية أمن مكة كأقدس بقعة على وجه المعمورة، كما ورد ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة»، مشيرا إلى أن للمجتمع دورا مهما في التوعية، فهناك أدوار تناط بأكثر من جهة سواء كانت حكومية أو أهلية منها على سبيل المثال دور أئمة المساجد في التوعية الأسبوعية من خلال المنابر لكافة أبناء الأحياء عما يعانيه المجتمع في المملكة والعاصمة المقدسة بشكل خاص من أنواع الجرائم الأخلاقية والاجتماعية، ولا ننسى في هذا الإطار دور وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة في نشر الفضيلة والقيم الأصيلة التي حث عليها الإسلام وحرمة مكة، الزمان والمكان، وبيان خطر هذه الجرائم على أمن ساكني هذا البلد الحرام وزوار البيت العتيق، والحث على التكافل والتعاون بين المواطنين والمقيمين ورجال الأمن في سبيل الحد من هذه الجرائم وطرق الوقاية منها. ويوضح حريري «مشروع مكة بلا جريمة يأتي ضمن فعاليات مراكز الأحياء، ويعتمد على محورين مهمين هما: دور الأسرة والمجتمع في تحقيق الأمن، حيث يهدف كذلك إلى التحول من الإسهام إلى الشراكة في تحقيق الأهداف، وتعزيز قيم المواطنة لدى أبناء الحي الواحد في مكافحة الظواهر السلبية مثل المخدرات وغيرها»، مؤكدا أن المشروع حقق الأهداف المرجوة منه وبنسب كبيرة. تعزيز السلوك الإيجابي 16 قسم شرطة و36 جهة حكومية تشارك في المشروع، ذلك ما يؤكده مدير مشروع «مكة بلا جريمة» سلطان الجعيد «المشروع يهدف إلى تحقيق أمر الله بأن تكون مكةالمكرمة بلدا آمنا مطمئنا، ونشر ثقافة الأمن مسؤولية الجميع، إلى جانب محاربة صور الفساد المختلفة وتنمية المسؤولية الاجتماعية بالمجتمع المكي للمحافظة على الأمن، كما يهدف المشروع إلى الشراكة المجتمعية للمحافظة على الأمن، وذلك من خلال تعزيز السلوك الإيجابي وعلاج مظاهر السلوكيات السلبية وتنمية روح العمل التطوعي وإحياء روح الإخاء والجوار وتحقيق البعد الأمني من خلال غرس الوعي الأمني واحترام الأنظمة وتوفير الخدمات الإرشادية»، مشيرا إلى أن مشروع «مكة بلا جريمة» مشروع قيمي، أمني، اجتماعي يسعى لجعل مكة خالية من الجرائم بكافة أشكالها وصورها عبر برامج توعية تستهدف ساكن مكة بالدرجة الأولى «المشروع تحت شعار «آمنون» وذلك بمشاركة 16 قسما لشرطة العاصمة المقدسة و36 جهة حكومية». أبعاد الخلل الأمني وتوضح مديرة الإعلام التربوي بتعليم مكة للبنات نادية جاها «شارك في المشروع العام الماضي أكثر من 140 ألف طالبة بمكةالمكرمة، وكان هناك تعاون بين إدارة التربية والتعليم للبنات بمنطقة مكةالمكرمة وإمارة المنطقة ضمن إطار المشروع للحد من الجريمة في البلد الحرام ورفع الحس الوطني والأمني فيها، وإعادة دمج أرباب السوابق في المجتمع والاستفادة منهم في محاربة الجريمة، والحد من تأثيرهم في المقربين منهم والمحيطين بهم، وغرس القيم الروحانية والإيمانية في نفوس ساكنيها، ولمعالجة أبعاد الخلل الأمني فيها ك «البعد القيمي، المعيشي، الاجتماعي، السلوكي» تضمن تنفيذ العديد من الأنشطة والبرامج والمسابقات استهدفت بها جميع الطالبات من مختلف المراحل الثلاث، واستخدمت فيها أساليب متعددة، حيث تم توزيع نشرات توعية وتقديم برامج إذاعية هادفة، وكذلك تنفيذ أعمال ومشاريع حول الأماكن المقدسة بهذا البلد، وإعداد مسابقات متنوعة عن قدسية مكةالمكرمة». تركيز على الاسم غير أن هناك زاوية ينفد منها انتقاد للمشروع، وذلك بأن التركيز على اسم المشروع أهمل جوانبه التنفيذية، وتلك رؤية الإعلامي عبدالله الدهاس «اسم المشروع في حد ذاته يعد جميلا، وكان الجميع يتطلع إلى أن يكون حضوره أقوى، ولكن الجهات المسؤولة عن المشروع ركزت، للأسف، على الاسم فقط وأهملت الجوانب التنفيذية له»، ويضيف «لا بد أن يستثمر القائمون على هذا المشروع القطاعات التعليمية بشقيها البنين والبنات، إضافة إلى التعليم العالي لنشر ثقافة هذا المشروع والأدوار الأمنية المطلوبة من كل فرد من أفراد المجتمع المكي، سواء من المواطنين أو من المقيمين». ويؤكد الدهاس أن الجوانب التنفيذية لأي مشروع هي الأساس لكي يحس المواطن ويشعر أولا بوجود هذا المشروع، وثانيا ليتفاعل معه بالصورة المطلوبة التي تحقق الأهداف التي وضع من أجلها. ويشير إلى أنه ينبغي كذلك الاستفادة من القطاعات الأمنية الكبيرة ذات الثقل الأكاديمي مثل جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية وكلية الملك فهد الأمنية للاستفادة من خبراتهم في المجال التوعوي في الجوانب الأمنية، لأن التوعية وثقافة المواطنة الصالحة قد تحد كثيرا من المخاطر الأمنية ومن بينها منع الجريمة بكافة صورها. حلول عاجلة ويرى المتحدث الرسمي بالجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتور صالح الخثلان أن الجرائم لا تقتصر على مكان دون آخر، ولا تخلو من أماكن تجمعات البشر بطبيعتهم البشرية لكنه يتطلع إلى أن تصان العاصمة المقدسة من وقوع الجريمة بها، نظرا إلى قدسيتها ومكانتها في نفوس أبناء الأمة الإسلامية. ويضيف الدكتور الخثلان «ذلك يحتاج إلى تكثيف الجهود الإدارية والأمنية وشراكة الجهات المعنية وذات الاختصاص من أجل قطف ثمرة إنجاح التصدي للجرائم، والعالم الإسلامي يستبعد أن تكون العاصمة المقدسة مدينة للجريمة وذلك لمكانتها وقدسيتها الروحانية، وهو ما يجب معه البحث عن الأسباب ومضاعفة معدل القوى البشرية بكافة القطاعات ذات العلاقة لمكافحة تلك الجرائم التي أرجع إلى أن نسبة مخالفي الإقامة والعمل يشكلون النسبة الغالبية». ويدعو الخثلان لإيجاد الحلول العاجلة والسريعة لذلك، مشيرا إلى أن من ضمن أولويات واهتمامات الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان هو الجانب الأمني، وأنها كثيرا ما شاركت رجال الأمن وعبر مقار الأمن العام دورات بهذا الخصوص فتحت من خلالها نوافذ للتواصل بين أعضاء الجمعية وقطاعات الأمن بهدف المصلحة العامة والحفاظ عليها وتحقيق تطلعاتها المنشودة. واستشهد الخثلان بحادثة مقتل الفتاة الجزائرية المعتمرة التي ذهبت ضحية أحد مخالفي الإقامة والعمل من داخل أحد فنادق منطقة الحرم المركزية، وحادثة أخرى كان الضحية فيها أحد رجال الأعمال من دولة الإمارات، والقائم على وفد للحج تمت سرقة مبلغ مالي ضخم من وسط المنطقة المركزية للحرم المكي عقب فراغه من صرفها من أحد محال صرف العملات. وشدد على أهمية المحافظة على صورة مكة الروحانية وقدسيتها وعدم التهاون فيما قد يكون سببا في تعكير الصفو وحفاظا على أمن وأمان الجميع برفع نسب توحد جهود وأعمال الجهات في مكة، ورفع مستوياتها وتفعيلها سواء القطاعات الأمنية أو الحكومية الخدمية الأخرى والقضاء على الأسباب بعد دراستها. برامج توعوية الناطق الإعلامي بشرطة العاصمة المقدسة المقدم عبدالمحسن العبدالعزيز الميمان يرى أن شرطة مكة عملت على مشروع «مكة بلا جريمة» ولم تستثن أحدا بهدف توعية الجميع مواطنين ومقيمين وتوضيح قداسة مكةالمكرمة، ووجوب التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، والبعد عن مواطن الشبهات ومواقع الزلل. ويضيف الميمان «البرنامج أسهم في تحقيق مبدأ الشراكة بين الشرطة وأفراد المجتمع بتطبيق فكرة الشرطة المجتمعية داخل الأحياء، وذلك أثمر عن تخفيض نسبة الجريمة عن الأعوام السابقة، ولا شك أن أي مجتمع لا يخلو من الأحداث، وهذه طبيعة في الكون في أي مكان وزمان إلا أن البرامج التوعوية التي تقيمها الشرطة بالتعاون مع أصحاب الفضيلة وأكاديميين تسهم في رفع مستوى الوعي لدى أفراد المجتمع ما يؤدي لتحقيق نتائج جيدة». ويشير إلى أن الجريمة في مكة يشكل فيها المخالفون للإقامة والعمل ومجهولو الهوية النسبة الكبرى في الحوادث الجنائية المختلفة والسرقات والسطو «الحملات قائمة تجاههم من قبل أجهزة الشرطة والدوريات الأمنية، إضافة للجوازات، ويتم تسليم المقبوض عليهم لإدارة الترحيل ومن ثم تطبيق الأنظمة بحقهم». ويقول الميمان «نظرا إلى طبيعة العاصمة المقدسة التي تختلف عن مدن المملكة الأخرى كونها مهبط أفئدة القلوب وحاضنة بيت الله الحرام، فإن المسلمين يفدون من كل حدب وصوب، ومنهم من يأتون بغرض النسك والعبادات وأداء الفرائض، ومن يأتونها بهدف طلب العلم وهو ما يظهر في نهاية المطاف لمكوث البعض منهم مخالفين للإقامة»، مشيرا إلى وجود أعداد من المخالفين من آسيا وإفريقيا أدى تزايدهم البشري لارتكاب المخالفات والأعمال الجنائية بغض النظر عن آخرين من الجاليات دائمي التعاون مع أجهزة الأمن والإبلاغ عن أي جريمة ومخالفة، وهم موضع إعزاز وتقدير الجميع لتأكيدهم على أن الأمن مسؤولية الجميع. عوامل نفسية مدير الخدمات الطبية بمستشفى الصحة النفسية بشهار استشاري الطب النفسي الدكتور مازن أبوالهيجا يرى أنه بحسب طبيعة المكونات البشرية لا يمكن القضاء كليا على الجريمة، لكن من الممكن التقليل منها من خلال مصطلح قانوني شرطي وصرامة العقوبات ووضع رقابة عالية، مما يجعل العقل البشري يفكر قبل أن يتخذ أي قرار قد يؤذي به آخرين بحكم طبيعة البشر وتميز عقولهم في التخطيط والتدبير والتفكير. ويشير استشاري الطب النفسي إلى أن بعض الجرائم تكون غير مقصودة، وهناك من يقدم على عمل جريمة وتعود أسبابها إلى عوامل نفسية، إما أن تكون أسرية أو اجتماعية أو اقتصادية، ولم يستثن أبو الهيجا فئات المخالفين ومجهولي الهوية باعتبارهم أكثر عرضة للتأثر بالمناخات والعوامل الاجتماعية، وذلك ما يجعل بعضهم ينحازون للدخول في غالبية أوقاتهم إلى كثرة التفكير بغرض الخروج من مأزق ما قد يصل في نهاية المطاف لارتكاب الجريمة بغرض المنفعة الذاتية «الوازع الديني يعتبر المفتاح الرئيس في حل مثل تلك الظواهر، فكلما كان الإنسان أكثر تقربا من خالقه وعلى يقين أن الله يراه على الدوام فإن النفس الأمارة بالسوء لن تعرف إليه طريقا، والعكس صحيح، فتقوى الله هي العلاج لخلاص البشر مما قد يعتريهم من الضائقات، وهي المفتاح الحقيقي إلى السعادة الأبدية بالدارين». مشروع الأمن المجتمعي انطلق مشروع «مكة بلا جريمة» من مركز حي العمرة في العاصمة المقدسة، والذي يشكل ضمن عشرة مراكز أخرى جمعية مراكز الأحياء في مكةالمكرمة، التي ينضوي تحتها 60 حيا سكنيا داخل المدينة. وقد بدأت الجهات الأمنية في العاصمة المقدسة خطوات التطبيق العملي للمشروع بإخضاع 90 مواطنا من أرباب السوابق لبرامج توعوية مكثفة بغية إعادة دمجهم في المجتمع، والاستفادة منهم في محاربة الجريمة والآثار السالبة في المجتمع