لم تكن مهمة التعرف على مورد رزق الشباب الذين يفضلون الركض وراء الفتيات في الشوارع، بالمستحيلة، فهم ربما فئة لا تمتلك قوت يومها فحسب، بل يتعدى الأمر إلى بطاقات فيزا، وماستر كارد، فضلا عن الشبكة السعودية، فيما مصدر الدخل بلا شك هو «بابا». يقولون إن الأب يحاول إسعاد أبنائه بكل الطرق، ولكنهم لا يقولون إن الأب يسعى لقتل الأبناء بشتى الطرق، ولكن ربما كانت في السعادة مؤشرات تقود إلى النهاية الحزينة. كانت تلك العبارات التي حفظتها عن ظهر قلب، لأبدأ مهمة البحث عن الشباب في شوارع الرياض، ولكن هذه المرة بالقرب منهم. سألت نفسي ألم تجرب هذا الدور، ليأتي الرد سريعا من شاب زاملني طويلا علما وعملا: «فاتك نصف عمرك»، وعلى الرغم من أنني حاولت مبادلته الرد باللفظ لتأكيد أنه ربما فاتني عمري كله إن جربت ذاك الطريق، فكرت في استبدال مصطلحات ما فات وما يأتي، بآخر، مفاده، فلنجرب حتى لا يفوتني النصف الآخر من العمر. دعوته للرحيل إلى حيث الشوارع، والدخول في مصطلحات الركض وراء الفتيات، والسهر في الشوارع حتى آخر الليل، وبالطبع ليس حتى آخر العمر، حسب الفيلم المصري، الذي ربما عكس حسب المتابعين تفاصيل إخلاص سيدة لزوجها. «اعتدت على السير في شوارع لا تعرف معنى النوم»، كانت تلك اللغة التي وضعتني على قارعة الطريق الصحيح لمزاملة من يعيشون على موائد الآباء، ويرتمون في أحضان الشوارع لبعثرة ما كد عليه الآباء وسهروا، وباتت لغة التنافس فيما بينهم صرفا بصرف، وبذخا ببذخ. على غرار «زنقة زنقة»، كانت الأقدام تتلهف لمعرفة خيوط الأمل في اصطياد كل ما من شأنه أن يقع في خانة الغزل، وقتها استدركت هل من السهل أن تصطحب شبابا لا يعرفونك، ربما استهوتهم معي فكرة التجريب، وربما كان العامل المشترك بيننا مبادلة من نغازل، والتنافس على ما نصرف. اتفقنا على البداية، ولكن بشرط، لا نسمع ولا نرى ولا نتكلم، فأبدلتها في خاطري بأخرى، أسمع وأرى ولن أتكلم، بل سأكتب ما سأرصده، وإن كنت بهذا الشكل أخالف قواعد اللعبة الشبابية، لكنني عاهدت نفسي على ألا أصور الحدث إلا بكاميرا الكلمات، فيما صور الأشخاص ربما لا تعني إلا أصحابها، ومن أراد التأكد من الروايات المرفقة، فليحجز له موقعا في قلب تحلية الرياض، وليشاهد ويسمع، وحتما سيعرف الحقائق. عندها لا مجال لفضح الأشخاص، وإن اتفقنا على فضح التصرفات، هم وثقوا في شخصي كمرافق، ولم يتعرفوا على هويتي كفاضح لقوالب المجتمع اللاإنسانية والتي تقود في النهاية إلى مجرد وعاء فارغ. لا تنازلات أسمى الشباب أنفسهم ب«الكول»، وأشهد لهم بمعنى اللفظ مترجما، والذي لا يعني إلا البرودة، فالدماء التي تملأ أجسادهم، لا تعني إلا «برودة»، فلا معنى للدفء بلا كرامة ولا ضمير ولا أخلاقيات. «أرافقكم يا شباب»، ربما كانت البداية على الرغم من أنها كانت في نهاية الأسبوع، وتحديدا ليلة خميس، حيث يعلو السهر، حتى الصباح. ربما ترددوا في البداية: «ومن أنت»، رحت أترحم على شخصيتي الحقيقية التي «لعنتها» بقواميس من الرذائل، تحتويه كلماته التي أعترف بأنها مبتذلة لإرضاء الأذواق والعقول. ربما كان في وقع الكلمات والتصرف ما يدعو للمرافقة، وربما كان العهد الذي بيننا ألا أسألهم من أنتم، ولا يزاحموني بالسؤال عمن أنا. «اتفقنا شباب» سألت في البداية عن سر المصروفات اليومية التي تتوفر لهم، ومصروفات آخر الأسبوع التي يصرفونها على ما يشربون ويأكلون ويغازلون، فلم يأتِ الرد إلا تبيانا بالواضح وبرهانا بالحقائق، فكانت البطاقات تتزاحم على الصرافات القريبة من المواقع المحددة كهدف، وال100 ريال التي يبحث عنها شباب يمثلون عمق المجتمع يكدون صباح مساء من أجل العمل، ربما لا يعترف بها «شباب الكول» الذين صاحبتهم لساعات معدودات، فلا معنى إلا للورقة الزرقاء ذات ال500 ريال، كلهم يخرجونها بأسرع فرصة، والبعض يكررها من لسان الصراف الآلي، ليتجاوز المبلغ المخصص لهذه الجولة 1000 ريال. عاهدوا أنفسهم على ألا يبلغ أحدهم على الآخر، فكلهم من أبناء حارة واحدة، وما بحوزتهم ربما «شرهات» الآباء، وربما مصروف مخصص لأغراض خفية، تبادلوا النكات والطرائف حول العقوبات التي ربما تنال بعضهم إذا عرف أولياء الأمور أين يصرفون تلك المبالغ، لكن شعارهم في كل الأوقات «قهقهة القادر على تجاوز الأمور بفطنة وذكاء». عندها علمت أنني يجب أن آتي في اليوم الموعود على النحو ذاته، والطبع ذاته، وإلا فاتني ملازمة هؤلاء الشباب. البداية والانطلاقة كان الموعد الأول بعد صلاة العشاء، في مقهى مجاور لمقر العمل، ولأنهم «كول» كان الموعد متوافقا مع تخميني، فالانتظار الإضافي يكفي لشوط كامل في مباراة مصيرية في كأس العالم، انتظرت 45 دقيقة حتى وردني الاتصال الأول: «ترانا في الطريق، ما تقلق، فالسهرة للصباح». على نغمات موسيقى الجاز، ترنحت السيارة يمنة ويسرة، فيما الألسنة تلهج بالصيحات، وربما لم أعد أسمع ما يقولون، ففي داخل سيارة «شباب الكول»، ربما لا يهم أن تسمع أحدا، لكن المهم أن تتحدث، ويعلو صوتك ظنا منك أنهم يسمعونك، والبقية لا تهم، ليعلو الحديث، والتسامر، لكن الاتفاق الضمني ربما على علو شأن القهقهة من آن لآخر، وهي لغة التلاحم في الحديث. ارقصوا، غنوا، افرحوا، قالوها فعلا على أنغام الصراخ، ولو أنني أجزم باختلافهم جملة وتفصيلا عمن يقصدهم صاحب المقولة الشهيرة، ولكنها كانت مجرد كلمات تبادلوا على إثرها الضحكات، التي تهز أرجاء الشارع المزدحم بأمثالهم من أبناء ليلة الخميس، فالشارع بات فسيفسائية للأصوات والأغاني، المتسربة من نوافذ مشرعة لا للشيء إلا لمشاركة الآخرين مسيرة التخلص من همهم اليومي وفرحتهم الأسبوعية. لكن بعض المارة كان يعلنها صراحة، مشمئزا مما يطول أسماعه من أصوات، لو دمجت بمياه البحر، للوثت أسماعه، وذلك بلا لفظ، بل بطريقة «أغلقوا النوافذ وكفى». لكنهم وأنا معهم، مع كل مرة تعلو فيها النوافذ على السيارات المارة بالقرب منهم، كانت تنفتح صدورهم فرحا بما أنجزوه، ويأسا من الحالة التي بلغها «جهل الآخرين» حسب معتقداتهم. طول المشوار لا يعرف «شباب الكول»، معنى لطول المشوار إلا في ظل غياب ما يفتقدونه على امتداد شارع العليا العام، والتحلية، فهم يدورون ويجولون في حركة شبه دائرية منتظمة تضاهي بندول الساعة، وإن اختلفت معه في أنها غير منتظمة، فربما ساروا مترا واحدا في خمس دقائق، وربما مشطوا 100 متر في غمضة عين. البحث بوضوح عن «الملثمة»، والصراخ يعلو لاستنفار الهمة، وتحفيز الذات والانضمام لقافلة الشجعان، مع الكلمة الشهيرة: «هناك وجدتها». في المشهد المقابل، الذي استهواني على إيقاع صدى المتحدث، لم أجد غير امرأة ملثمة محجبة لا يظهر منها إلا ما أراده الشارع، ولا تتمايل إلا وفق تناغم حركة الأقدام المتسارعة نحو هدف ما، لكنهم عدوها الصيد الثمين، وبدأت الأعين تترقب كل شاردة وواردة، حتى كدت أن أفجر المفاجأة بدعوتهم للتوبة من أول ناصية، لكنني تراجعت مع أول اقتراب من المرأة. شاهدت كميات من المساحيق التي لا تحتملها بشرة واحدة، فالعين ممتلئة بما هو متعارف، عندها لملمت نفسي، وأيقنت أنهم ربما كانوا على حق، «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». وقبل لحظات من ترتيب الأوراق، زاحمتهم سيارة أخرى فارهة انعطفت على سيارة ثالثة مليئة بالملثمات، عندها تغير وجه الشباب: «ترانا لازم نروح خلف سيارة البنات»، فنفذ السائق الأمر وصولا إلى تقاطع شارع موسى بن نصير لغرض الترقيم، الذي كان ضريبته أن يزدحم الشارع المزدحم أصلاً، حتى لو كان كلفة ذلك «فلاش ساهر». مطاردة ونتيجة استمرت المطاردة أو المتابعة للفتيات حتى وصلن إلى الممشى عندها هدأت الوتيرة، وبدأت الكلمات تلاحق أسماعهن والغمزات تتقاذف على الوجوه، معلنة نهاية الاستقرار الحسي، وتفاقم الوضع مع الاقتراب أكثر في عمق الحيز المكاني، فاقتربت السيارتان، وطلب أحد شبابنا بأسلوب ربما لم أر مثله من أدب: «ترانا لا نكون أزعجناكن، ممكن تتلقين الرقم؟». سؤال نزل بردا وسلاما على إحداهن، والتي بدأت في الرد بأسلوب «أكثر تحضرا»، فأعلنت اعتذارها عن عدم فتح نافذتها على مصراعيها، وتناولت الرقم من فتحة لا يتجاوز مداها «سم في سم»، وهو مصطلح لغة القياس بالمتر، وليس وفق أي مدلول آخر. تجاوزت السيارة السيارات الأخرى، ولم يكملوا المسيرة خلف الفتيات، فسارعت في الاستفسار، عن السبب في عدم الملاحقة، فجاء الرد: «ترانا انتهينا، نشوف غيرهم». عندها أدركت أن لكل منهم موعدا، والتنسيق في وقت لاحق. أولاد «الإيه»! كلنا يعلم مسبقا أن الخميس مخصص في المراكز التجارية الشهيرة، للعائلات، لكنهم قرروا لا المجازفة، أو المغامرة، بل الدخول. «انت ما تدري مين نحن»، كلمات أوقعوها كالصدمة على مسامع رجال الحراسات الخاصة في المجمع التجاري، الذي أوقفنا على البوابة، معتمدا على ما لديه من تعليمات لا تسمح للعزاب باجتياح خلوة العائلات، فاستبسل الحراس بالصمود، وضاعت محاولات الشباب في الدخول، عطفا على مكانتهم الاجتماعية المزعومة. استفسرت عما إذا كان مكر المكانة ينفع في موقع آخر، فجاء الرد بالإيجاب: «نحاول وأحيانا نخدع الحارس، فيسمح لنا بالدخول. عدنا أدراجنا إلى منطقة العليا، حينها وجدنا أنفسنا قيد التوقيف، حيث وجدنا نقطة تفتيش مؤقتة، دعانا لإزالة التظليل، بعدما استفسر عن الأوراق الثبوتية، بادرتهم بالقول: «خلاص أصبحنا مشبوهين»، فتعالت الضحكات والرد الآلي جاء كالتالي: «يا رجال خذ من هذا كثير، لا تشغل بالك». لكننا انتهينا بالإزالة، فلا تعرف مع رجل الأمن مصطلحات من نحن، ولا توسلات تكفى، وبقيت لا تشغل بالك معناها: «ما انكسر يمكن إصلاحه في شارع الغرابي بتفاصيل جديدة، ولكن بسعر لا يقل عن 500 ريال وإن بدا السؤال المتجدد من أين لهم بالأموال؟ خسرنا التظليل لم يردعنا خسارة تظليل السيارة، في العودة عما نحن فيه، بل صمم شباب كول على الوصول إلى الهدف الجديد، والساعة تقترب من ال11 مساء، ذهبنا إلى مجمع تجاري يسمح بدخول من أراد ولو في ليلة خميس، هناك لاحظت تجمعات شبابية متعددة، مجموعة منهم ربطوا أعناقهم بحبال تدلت منها جوالات البلاك بيري، وراحوا ينقبون داخلها عما لا يراه غيرهم، لكن في المقابل، كانت النظرات من العائلات ترفض ذلك الاقتحام، ولكن يبدو أن الشباب الأكثر روادا، وإلا لما فتح المجمع أبوابه لنا. خرجنا سريعا من المجمع، فلم نجد مبتغانا من غنم قاصية، ولم يفلح البلاك بيري الذي بحوزتنا في اصطياد «الشارة»، فعدنا أدراجنا لنقتل جوعنا في أحد المطاعم الشهيرة، وعند البوابة توقفنا دقائق، سألتهم ألا ندخل، فردوا جماعة: «لا ننتظر حتى نبدأ العد التنازلي». لم أفهم المضمون أولا، لكن التجمع النسائي الذي لاحقوه على قارعة الطريق المقابل للمطعم، وعلى أعتاب باب العائلات، دعاني للتعرف على ماذا يريدون، لكن هذه المرة ليست ملثمة، بل ربما مستسلمة. طوعوا أعينهم للنظر، وأياديهم لملاقفة الأرقام، وأقدامهم للملاحقة، وفي النهاية، الانسحاب التكتيكي، إلى حيث الباب الآخر، ولسان حال الجميع يتفاخر بعدد الترقيم الذي بلغوه هذا الأسبوع، أما أنا فانسحبت بعد جلسة عشاء صاخبة بالابتهاج بالغلة المتقاسمة بالعدل فيما بينهم، وحاولوا منحي نصيبي، فجاء ردي حاسما للمرة الأولى: «آسف أرفض الرذيلة» .