«إني حصان فما أكلم، وثقَاف فما أعلم» - أم حكيم بنت عبدالمطلب. أرجو ألا تظنوا أنه موقف عليائي، وأن أم حكيم رضي الله عنها قد استبد بها الغرور فقررت التوقف عن تحصيل المعرفة. بل هي وصفت نفسها بالثقافة لا بالمعرفة، وشتان شتان ما بين الاثنين. المعرفة في المحصلة العامة تجميع للمعلومات مع بعض العمليات التنظيمية التي تضمن للعقل استرجاع المعلومات بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب. وقد يكون لأحدهم اطلاع موسوعي، وقد يختزن عقله الكثير من الأرقام والنسب والأحداث والمقولات، لكن إياك أن تظن أنه مثقف بالضرورة، هو عارف وحسب. أما المثقف «أو الثقاف كما وصفت أم حكيم نفسها بصيغة المبالغة» فهو شخص لا يحتاج أن يعلم، لأنه تعلم كيف يتعلم، وخبر آليات اكتساب المعرفة، وتجاوزها إلى شيء أكبر وأعمق: الثقافة. وهذا لا يعني أن المثقف عارف بكل شيء، بل هو يملك قاعدة معقولة من المعارف، انطلق من كتفيها إلى أفق أرحب وهو التثقف. وعلي أن أشير هنا إلى اللبس الذي كثيرا ما يحدث بين الثقافة التي أتكلم عنها «أو المثقفية نسبة إلى كون الشخص مثقفا» Intellect وبين الثقافة بمعنى القيم والسلوكيات السائدة في مجتمع ما أو مؤسسة Culture. المثقف يتسم بصفات فكرية تفرقه عن غيره من دوائر المعارف التي تدب على الأرض و«ديدان الكتب»، فهؤلاء كثيرا ما يكونون «مسقفين»، يضربهم أفق خفيض على رؤوسهم لأنهم لا يفكرون خارج أقوال فلان وفلان، فيصنعون لأنفسهم سقفا قادرا على حفظ الكثير من إنتاج الآخرين، لكنه سقف خال من المسامات التي تسمح لإبداعهم أن ينفذ من خلاله. وبالمناسبة وبما أن هذا الأمر يزعجني المثقف ليس شخصا يرتدي نظارة بالضرورة «مثلي أنا!»، ويعيش بين كومة من الأوراق وأعقاب السجائر ويستطيع أن يبقى بينها أسبوعا أو أكثر يتنفس ثاني أكسيد الكربون بطريقة لم يكتشف العلم الحديث لها تفسيرا! وليس بين الصلع وبينه عقد احتكار «على اعتبار أن أصحاب الصورة النمطية لا يؤمنون بوجود مثقفات، ولله الحمد»، ولا يجب أن يكون من بين المرشحين للحصول على لقب عميد البشرية. شكرا للسينما العربية، شكرا للمخرجين، لا أعرف متى سيمكننا رد أفضالكم؟! وحتى لا أكثر من التنظير، وأعلم أن القارئ اليوم نفسه قصير، إليكم قائمة بصفات غالبا ما تجدونها لدى المثقف: - المثقف له المقدرة على التفكير المستقل، الذي كثيرا ما يتجاوز حدود الزمان والمكان. فهو لا ينظر إلى زمانه ومجتمعه فقط، بل إلى هم أكبر، أممي أو حتى كوني. المثقف يزعجه أن يحصر نفسه في الهم الآني، وقضية الساعة، بل لديه نزعة ظاهرة إلى القفز على خط الزمن «تقديما أو تأخيرا» للحصول على خلاصة فيها الخلاص. وهذا لا يعني أنه لا يهتم بمجتمعه، لكن هذه النزعة القلقة نحو ما هو أوسع هي ما تمكنه من الوصول إلى حلول مبتكرة لمشاكل مجتمعه في حين يرزح الآخرون في مستنقع التبرم حول الواقع. - المثقف له وعي شمولي، لا يحصر نفسه في حقل علمي معين، بل يجوب بساتين مختلفة يلتقط منها الثمار الملائمة، بل يزاوج بينها. الخيال العلمي على سبيل المثال لا الحصر مزيج من العلم والأدب لا يقدر عليه إلا شخص قادر على امتلاك ناصية الأدب والإمساك بلجام العلم، وتزويجهما بغراء الخيال. - المثقف إنسان لم يفقد القدرة على التساؤل، ونزعة الفضول، والقدرة على تطويع أحلام اليقظة وتساؤلاتها لتكون منصة انطلاق إلى قضايا أكبر. - المثقف إنسان لا يشبع من المعرفة، لكنه يعرف كيف لا يكون سلبيا لها، يعرف كيف لا تصيبه تخمة معرفية. فهو حين يقرأ، يقرأ قليلا ويفكر كثيرا، فالإفراط في القراءة كعدمها، ينتج لنا عقولا ببغائية لا تستطيع النقد ولا التحليل، ويخرج لنا أفواجا من «المسقفين». المثقف يعرف من أين تؤكل الكتف المعرفية، يعرف كيف يتحرك كالفراشة ويلسع كالنحلة! يعرف كيف ينتقي ما يقرأ، ويعلم أن ما بين يديه جهد بشري يستوجب التمحيص والأخذ والرد. ولذا فهو إنسان له رأي خاص به، فهو ناقد وليس ناقلا يلوك رأي من قرأ لهم دون أن يمرره على مفرزة الشك. وهو إن نقل ينقل بأمانة من جهة، وبحكمة وحذر من جهة أخرى. - المثقف لا يسكن في بطون الكتب، بل شخص تخرج منها إلى أفق أرحب وأوسع. شخص يحب أمهات الكتب، لكنه قادر على الانفطام من أحضانها. وختاما، المثقف من وجهة نظري شخص عليه الخروج من البرج أو القوقعة ليقدم شيئا يفيد الإنسانية بالمفهوم المجهري المتخصص «مايكرو»، أو المنظاري الواسع «ماكرو». فالمثقف الذي يكتب لنفسه أو ل «شلته» أو يكتب ليتلذذ بتعذيب الناس بكلمات وتهويمات لا وربما لن يفهمها إلا هو، ليس مثقفا حتما بل مهووس فكريا يريد استعراض ذخيرته أو مقدرته على اختراع رموز سرية. أما المجتمع والأمة والإنسانية فتحتاج إلى لغة كونية، لغة مسؤولة، لغة لها يد تهز العالم لتوقظه من سباته، وتربت عليه إذا ما أصابه الأرق.. هؤلاء هم المثقفون الحقيقيون. هؤلاء فشجعوهم حيث ثقفتموهم! حياة الياقوت http://www.hayatt.net