لم يكن التفكير سهلا أن أمتطي صهوة جواد ما يعرف ب «الطقاقة»، فالأمر ربما بات مشبوها في عرف الكثير من الجهات. لكن التمعن في المهنة، يجعل الأمر أشبه بمحاولة يجب التوصل إلى مغزاها، فما معنى الطقاقة، وما صحة كل ما يقال عنها، ولماذا باتت هذه المهنة في مهب القيل والقال؟ عرفت أن المغامرة سمة العمل في هذا الإطار، لذا كان التفكير يحمل وجهين، أولهما الاكتفاء بتولي عمل وكيلة طقاقة، والثاني أن أتمادى في الدور حتى آخره. لكن لم يكن في خاطري، أو في حساباتي كيف يمكن أن أتعامل مع الالتزامات المالية، أو ما يعرف في مصطلح الفنانين ب «العربون»؟ وهل يمتد الأمر لاتفاق شبه نهائي، أم يتوقف عند أول بوابة، وما الفائدة إذا توقف، دون الخوض في التفاصيل، والوصول إلى عمق العمل أو المهنة؟ في مثل هذه المهمات لا بد من وسيط يعمل منسقا أو بوق دعاية، وكانت صديقتي الثرثارة هي من تولت ذلك، حيث بمجرد إطلاعها على الرغبة، حتى سارعت بإعلان الاسم، وتوزيع رقم هاتفي إلى الباحثين، أو بالأحرى الباحثات عن طقاقة، وكما يقولون «تبيض الوجوه». أطلقت على نفسي أم خالد، واعتبرت نفسي وكيلة طقاقة، تدعى أم سامر، على أمل في القفز على حبلي المهنتين، على أمل ألا يشعر بي أحد، وتجنبا لعدم وضع نفسي في زاوية ضيقة، ربما لا أخرج منها. أول المكالمات كانت لا تخلو من الخشونة و«التريقة»، إذ اتصلت أم عروس، راحت تسرد في سمعتي قصائد، حتى بت أقرب لتصديق مهمتي الانتحالية الخاصة، حيث ادعت أنها سمعت عني أنني أجعل ليلة العرس يتحدث بها الناس. بالطبع قابلتها بنوع من التواضع، وأبلغتها سريعا «طلبك عندي، سأحيي لك ليلة يتكلم عنها كل الناس، ولكن كم تدفعين؟». فلم تتردد في التأكيد على أن المقابل لن يقل عن 5 آلاف ريال، فعاجلتها بسرعة «أنا مو رخيصة، شكلك ما سألت عني، أجرتي وحدي 15 ألف وفرقتي هذه الخمسة اللي تقولينها». لكن المرأة انفجرت في الهاتف، واستخدمت كل مقومات الصراخ «ليش، مين تحسبين نفسك، أهون لي أجيب نانسي عجرم ولا هيفاء وهبي، روحي بلا طق بلا وجع رأس»، وأغلقت السماعة فحمدت الله أن الموقف انتهى عند ذلك الموقف. لن نختلف بالطبع، لم يكن الرقم الذي اخترته جزافا، بل عبر تقص عن واقع الطقاقات، والأسعار التي تتداول في الأفراح، لكن في المقابل حرصت بالتنسيق مع صديقتي على أن تكون الدعاية لي عبارة عن «نفخ بوق»، حسب استطاعتها، في سبيل إظهار قدراتي الفنية الزائفة أو المزعومة، كما يجب عليها ألا تتحدث عن الأسعار حتى لا يتردد الناس في الاتصال بي، وأعتقد أننا نجحنا بصورة جيدة في تمرير الخطة من خلال الاتصالات التي وصلتني. في المرة القادمة، رفعت السماعة وإذا على الخط رجل، فسألني إن كنت أنا الطقاقة أم خالد، فأجبته بالإيجاب، فرد «نبغاك لعرس أختي». سألته استنكارا لبادرة اتصاله شخصيا، دون اتصال أهله، خوفا من المعاكسات وخلافه «ولماذا لم تتصل الوالدة أو أختك؟». لكنه أقنعني بالتأكيد على أنه قرر إهداء الطقاقة لأخته في عرسها، على أن تكون مفاجأة لإحياء ليلة ولا كل الليالي «حسب وصفه». وراح يضيف «أولاد الحلال أشاروا إليك، ودعوني للارتباط بك، لما تمتلكينه من قدرات فنية مميزة». أبلغته «إن شاء الله وعدك عندي»، ليفتح معي باب التفاصيل المعروفة «كم أجرتك؟». ولأنه يبدو جادا فكان لا بد من «تطفيشه»، ولذلك بادرته «كم تدفع؟». لكنه أصر بالتأكيد «ما تريدينه، ولكن أبغي ليلة ما يحتاج». عندها شعرت بأن الموقف سيتأزم، ولذلك جاء إصراري على أجر يجعله عاجزا عن دفعه «أيوه، يعني كم تدفع». لكنه كان أكثر ذكاء مني بالإشارة إلى انصياعه لما أطلبه، وعدم اختلافه معي في مسألة الأجر، لأنه يبحث عن النوع، وليس المبلغ الذي يمكن أن يقف حائلا بين اتفاقنا، إلا أنني ما زلت أتوقف عند خانة الاتفاق أولا «واللي أوله شرط آخره نور، ونظامي تحديد الأجر أولا، ودفع نصفه قبل الليلة، والنصف الآخر عقبها مباشرة قبل مغادرة قاعة الفرح». اعتقدت أن هذا الأمر ربما يجعله «يطفش»، إلا أنه بادر بقطع حبل التفكير «أعطيك 7 آلاف ريال». بادرت بالرد، معلنة رفضي القاطع لهذا المبلغ البخس «لا، هذا لا يناسبني بالتأكيد، فأجرتي لليلة الواحدة 20 ألف ريال». فشعرت بأنه صعق من هول الصدمة وإن كنت صعقت قبله من هول المفاجأة، إذ كيف تتقاضى الطقاقة 7 آلاف ريال في ساعة أو ساعتين على الأكثر، بمعنى أن عملها يحسب بالدقيقة، رحت أحصى ما تتقاضاه كل دقيقة فلم يقل عن 60 ريالا لكل 60 ثانية! ولم أفق إلا بصوت الرجل، الذي بات يصيح، محاولا استدعاء تفكيري، والاستمرار في محاورته للاتفاق على مبلغ ما، لكنني أبلغته أنني أريد أن يردد ما قاله، لأنني لم أنتبه، فرد «قلت هذا كثير، راعيني شوي». لكنني وجدتها فرصة في الهروب من الاتفاقية التي باتت على الأبواب، وربما جعلتني أول طقاقة مزورة تمارس المهنة رغما عن أنفها «لا تنقص ولا ريال». ولأنه شعر بالاستغناء أو «طفش» من التمسك بالرقم العشريني، أنهى المكالمة «الله معك». عندها تنفست الصعداء، لكنني شعرت وقتها أنه ربما أظهرتني هذه الطريقة بأنني طقاقة جشعة، مما سيكون له تأثير على سمعتي المهنية، وسط تنافس حاد بين الطقاقات الحقيقيات اللائي يعملن حسومات مغرية للظفر بليلة، فيما أنا طقاقة مزورة ومع ذلك أشترط وكأنني ألعب وحدي في حلبة السوق. باحثة عن الهداية لم أعر المكالمة الأخيرة اهتماما كبيرا بمجرد الانتهاء منها، وبدأت في الاستعداد للمكالمة الأخرى، التي كانت من سيدة لم يكن الغرض منها طلب حجز أو إحياء ليلة، بل على النقيض من ذلك. كانت سيدة يبدو من صوتها أنها كبيرة في السن، اتصلت بي، بحجة إحياء ليلة لابنتها، ولكنها لم تكن مهتمة كثيرا بالتفاصيل والأجر، ولم أهتم لذلك لأن الأمر بالنسبة لي بدا كدردشة وتسلية في حوار مع سيدة مجهولة. سألتني تلك السيدة بعد توضيح طلبها عن عمري، فأبلغتها بأنني في العشرينيات، فسألتني هل أنت متزوجة؟ فأجبتها نعم. فتابعت الأسئلة إن كان لي أولاد، فأجبت نعم، فردت «الله يخليهم لك، ماذا يعمل زوجك؟». فأجبت «كداد على باب الله»، وهنا وجدت صعوبة في الاستمرار في حالة الكذب على السيدة، ولكني كنت أحاول مجاراتها لمعرفة السر وراء سيل التساؤلات التي وضعتني في زاوية للإجابة عنها، ولكي أوقفها حاولت القيام بهجمة ارتدادية بسؤالها «كم لديك من البنات؟». كانت مرنة في إجابتها «4 بنات»، فقلت لها «الله يخليهم لك، والعروس أي واحدة فيهم؟». أجابت الثانية، فقلت «إذن سأحيي لك حفلتين أخريين إن شاء الله»، ردت «شكرا يا بنيتي، ولكن ألم تفكري في عمل أحسن من هذه المهنة؟». كان ردي واضحا «وإيش فيه هذا العمل؟»، لترد «ما فيها شيء، ولكن هناك أعمال أحسن منها». طلبت منها النماذج، فقالت «يعني لو عملت في وظيفة»، أبلغتها أن الكثيرات تركن الوظيفة واشتغلن طقاقات، فبادرت بالقول «الله يهديهن، الصبر زين، يا ابنتي اتركي هذا العمل، وابحثي لك عن وظيفة أحسن، وبصراحة أنا ما أبغي طقاقة ولا ابنتي معرسة، ولكن أنصحك لوجه الله أن تتركي هذه المهنة، وتبحثي لك عن عمل ثان، هذه المهنة بصراحة ليست محترمة وفيها حرمة الغناء، هذه نصيحتي لك لوجه الله، والله يهديك». إلى هنا انتهت المكالمة من غير «مع السلامة»، أو كلمة وداع، حتى تساءلت أهكذا تكون النصيحة؟، المهم أنني وضعت السماعة في انتظار زبون آخر. على سن ورمح في الواقع تلقيت نحو عشر مكالمات قبل أن أنهي المهمة، لم تحدث فيها مفارقات مهمة، ولكن القاسم المشترك بين جميع الطلبات الحرص والتأكيد على أداء غنائي يعزز الوجاهة الاجتماعية، خاصة لدى الأمهات، ولتأكيد ذلك من جانبي كان لا بد أن أصنف نفسي في الدرجة الأولى بين الطقاقات، رغم أني لم أغن أغنية في حياتي أو أقترب من الطقاقات، وهذا ما أوقعني في حرج مع متصلة أصرت على أن أغني لها عبر الهاتف لتعرف إذا ما كان أدائي حسبما يقولون، أم أنني مجرد طقاقة عادية، فرفضت بشدة، وعندما لم تجد لذلك سبيلا أنهت المكالمة، وهي مقتنعة بأنني لست طقاقة على سن ورمح. موقف صعب اتصال آخر من سيدة لم نكمل اتفاقنا فور سماعها لأجرتي التي تبلغ 20 ألف ولا أتزحزح عنها ريالا، حتى بادرت بقذفي والتقليل من قيمة الطقاقة بصورة مهينة ومبتذلة، وحينها أغلقت الخط من جانبي من هول ما أسمع، وتماسكت بالتأكيد على أنني لست المقصودة، فأنا مجرد متقمصة لدور طقاقة مفترضة، وبالتالي ما يصلني من شتم إنما يخص أخرى لا علاقة لي بها، ولكنها كفتني حرج حسم الموضوع. لكن أصعب محاولات إقناعي كان مع سيدة بدت على أنها ثرية، حيث إنها عبرت عن رغبتها في التعاقد معي، وأن أغني في عرس ابنتها، ولم يقف مبلغ العشرين ألف ريال قيمة التعاقد، عائقا أو حاجزا أمام رغبتها في أن أغني في تلك الليلة، وحاولت التهرب بالتشديد على أن موعد زواج ابنتها محجوز لدي، فأصرت على أن ألغي الموعد وتعوضني عنه. لم تفلح كل محاولاتي معها، وتفتقت حيلتي بأن أدبر لها طقاقة أخرى لا تقل عني، ولكنها أصرّت علي شخصيا، ولعل تلك «الورطة» أقسى محادثاتي مع الزبائن في مهنة مزيفة. وبعد مكالمة استغرقت حوالي ثلث الساعة، أبلغتها بأنني لا أعدها، ولكن سأحاول أن ألبي طلبها، ولكن لا تعتمد علي، وعليها أن تبحث عن بديلة على سبيل الاحتياط أو أدبر بديلة أخرى «عليك أن تدبري أخرى، لأن الظروف غير معروفة إذ ربما أمرض في ذلك اليوم»، فردت «سأذهب بك إلى المستشفى، ولكن لا بد أن تغني في عرس ابنتي». كان ردي «على عيني ورأسي، ولكن الأمور لا تؤخذ هكذا». ولكنها أصرت وظلت على موقفها، فما كان مني إلا أن رفعت لهجتي الحادة في الحوار «متأسفة رغم احترامي رغبتك، ولكنني لا أستطيع الالتزام لها» عندها فقط انسحبت من الخط والتعاقد «سأتركك ولكن حاولي وسأنتظرك». كلمات جعلتني أتنفس الصعداء، بعدما نجحت أن أهرب بجلدي من هذه المواقف، ولم أكمل الرد على بقية المكالمات التي بدأت تنهال على هاتفي بحثا عن طقاقة متميزة، وكأن حفلات الزواج لا تستكمل إلا ببعثرة الآلاف على أقدام الطقاقة، وكان اعتذاري بأن الرقم خاطئ، لكل من طلب الطقاقة أم خالد، ولكن السؤال الأهم هل تتقاضى الطقاقات المبالغ المذكورة «عن جد»؟ .