بت أكره الحديث المكرور كثيرا، خصوصا حين يكون مصحوبا بتصريحات حكومية، وأوامر إدارية متجاهلة. يصاب الإنسان بملل من تكرر حادثة وتكرر «عذرها» حدوثه. حدث مثل معرض الكتاب الدولي، يتكرر على مدار العام، ويتنقل في بلداننا العربية الفقيرة إلى القراءة، على الرغم من ارتفاع منسوب الشراء، كأي سلعة استهلاكية. بالطبع هذه معلومة فيها من التعميم ما يتوازن مع حجم عمومية الحكم الذي يقابلنا به منسوبو وزارة الإعلام على بوابة منافذ الدخول إلى المملكة. بغض النظر عن الواقع المجرد من نظرة الاحتقار لنوعية القراءة، أيا كانت. المملكة خصوصا، تعد من المجتمعات التي تعاني من تعقيدات فكرية، سببها الضغط في اتجاه الحذر والخوف من قراءة بعض الكتب والأفكار التي تعارض الجو العام في المجتمع. والمسألة هنا قد تكون ذات حساسية: هل الأكثر أمانا السماح بدخول جميع أنواع الكتب، أم أن المنع «النوعي» واجب؟ والإشكالية المصاحبة لهذا السؤال تكمن في: هل ثمة كتاب يمكن ردعه من الدخول أصلا؟! المسألة هنا لابد أن تكون متخيلة جيدا، وهذا ما أعتقده غائبا عن وعي رجل الثقافة المشرع لدخول كتب دون غيرها، فقط من باب إثبات الوجود و«التخويف/الإرهاب» أن: «انتبه.. أنت مراقب!» ثم يأتي السؤال الفارق: هل الممنوع امتلاك الكتاب أم نشره؟ أن أشتري كتابا ما وأقرأه فهذه حرية شخصية/فكرية، أما أن أنشره في المجتمع فهذا قد يكون خاضعا لذائقة المجتمع، وتشريعاته الإدارية/القانونية. المملكة تتعامل مع التنمية وأفكارها، وعندها نية كبيرة في تكوين خطة متكاملة في اتجاه تكوين «مجتمع المعرفة»؛ و معرفة دون رفع سقف حرية القراءة، لا يحصل به «التنوع» الذي هو أساس المعرفة! إن الإغراق في الحذر والضغط في الاتجاه الذي يخاف منه، سبب هرب هذه المخاوف إلى الطبقة السفلى، وأصبح التهريب والتخفي بديلا عن الفعل الظاهر البريء! لابد أن يفهم أن الوعي المعرفي/الثقافي هو الأهم هنا، وليس ثمة بديل أبدا، حتى لو كان «التعليم»؛ لأن الثقافة كمعرفة اختيارية، لا يمكن أن تكون مرادفا للثقافة الإجبارية ذات المنحى المتشابه لعقول مختلفة. التنوع في القراءة هو ما يخرج مجتمعا يقبل الاختلاف فيه، نظرا لتنوع الأفكار. هذا بيننا كمجتمع، فما بالنا بالتعامل مع تنوع العالم؟! تخصيص القراءة وحصرها في سؤال: هل نوعية قراءتك تتوافق مع تخصصك/وظيفتك؟ إذن فكتابك مسموح بعبوره، وغير ذلك فممنوع، لأنك حينها تكون تدخلت فيما لا يعنيك. وزارة الثقافة- مع أسفي- لا تهتم بالثقافة في معناها الواسع، مع أنها «تقول» عكس ذلك، ويفعل أفرادها عكس ما تقوله! وهنا أسأل: يا ليتني أعرف المعيار الثقافي/العلمي/ التأهيلي/ الأخلاقي الذي يختار به مستقبِلو الواصلين من القراء؟ «المستقبِل» هو البوابة الأولى، فما الناتج الإيجابي إن كانت مغلقة من البدء؟! هذا بالنسبة للثقافة، وإلا فالحديث عن «الاستثمار»- مثلا- يثير حسرة أكبر.. فمفارقة كبيرة بين ما يراد وما يفعل! الأكثر إيلاما وصدما، حين يكون من ضمن الأسئلة الروتينية على لسان موظف الإعلام حين يرى مجموعة الكتب «الشخصية» للآتين من معارض الكتاب: هل أنت باحث/ صحفي/ أديب.. ما عملك؟ ويكون «الحزم» في أسلوب السؤال بقدر عدد الكتب «الشخصية» المحمولة. بمعنى آخر لذات السؤال: لماذا تقرأ هذا الكم إن لم يكن لك «مصلحة» مرتبطة بالقراءة؟! هذا الرجل الذي يسأل مفترض أن يكون مثقفا بالدرجة الأولى، على الأقل كي يعي أن القراءة فعل للجميع، وأدعى أن يكون امتلاك الكتب طبيعيا حين يأتي الإنسان من معرض كتاب! وكتكرار أقول: توجيه الفكر من الأخطاء التي تمارس «فعلا»؛ وتنبذ «قولا». إن فقدان التركيز على ثقافة العقول؛ لا «ترفيهها». (مالك بن نبي) اعترض على هذا الربط قديما حين نبه إلى الفرق بين الإعلام والثقافة، فإما إعلام وترفيه، وإما ثقافة ومعرفة. أما الربط بينهما فقد يطلق «ثقافة الرفاهية» لا «رفاهية الثقافة»! هذا الخطأ الواقع هو ذاته السبب في انتشار البحث عن هذه الكتب. فالدعاية التي تمارسها وزارة الإعلام، هي ذاتها دعاية إلى الشر الذي تحذر منه، والنفس تعشق الممنوع.. خصوصا إن كانت شابة، وبالأخص حين تتكرر الدعاية عليه! بدلا من المنع، لابد من المناقشة والحوار. وللمعلومية: نحن من بين دول قليلة في العالم نملك وزارة واحدة تختص ب..الثقافة والإعلام، والرقابة، والمنع، والتفتيش، والجمارك... إلخ! مصيبة حقا التعامل مع الكتاب على أساس أنه أمر مخيف، وأن حامله هو محل شبهة.. فقط لأنه يحمل أفكارا. الأكثر كارثية حين تكون الرحلة إلى معرض كتاب ما، هي التجربة الأولى لشاب أو فتاة، ويستقبلهم هذا «الترهيب» من باب «الحذر واجب». كيف يمكن أن يشعروا بالأمان في المرة القادمة التي يفكرون فيها بشراء كتب.. فقط كي لا يكونوا عرضة لأعين الواصلين كأي مهرب ما! لابد أيضا من الوعي بأن الاحتيال وارد، ويستطيع أي شاب أن يدخل ويخرج بعدد كتب لا يتعدى حجم حقيبته اليدوية.. فقط ليثبت أنه يستطيع الإتيان بما يريد رغما عن أي إدارة! حينها، لن تكون الأفضلية لتقدم المعرفة، بقدر ما ستكون لتقدم «رغبة الممنوع». لن يتم التقدم خطوة في أي مجال تنموي في بلد لا يحسن التعامل مع العقول، ويتم فيه التساوي بين «الفكرة» و«القنبلة». منذ متى أصلا كان الفكر يوقف ويمحص من عقل إنسان لا يملك معرفة بمواقيت معارض الكتاب، فضلا على الحكم على «عناوين» الكتب بغض النظر عن «محتواها»؟! من المحزن أن يتم اعتبار ذائقة «موظف» الإعلام هي بوابة الثقافة الرسمية، سواء على بوابة الوصول أو في أروقة الوزارة، حتى لو كان يحمل قائمة الكتب الممنوع قراءتها «علنا»؛ لأنه ليس من الطبيعي أبدا أن يكون الحكم في مجتمع يتعامل مع كل المداخل المعلوماتية في هذا العصر، من التلفاز إلى فروع الشبكات الاجتماعية المنتشرة على الإنترنت، واحتكار المجتمع في نطاق «ذائقة مزاجية» لرجل واحد يضع قائمة للمسموح والممنوع. تكمن أكبر مشكلات المزاجية في التوزيع الطبقي/الوظيفي. وقد يمر صندوق من «الأشياء» موسوم باسم «أحدهم»، ولا يمر «كيس» من الكتب؛ لأن حامله ليس اسمه «أحدهم»! قد أطالب الآن بالدليل، وسأقول: ثمة أشياء لا يتم التعامل معها بالدليل؛ لأن المشاهد هو الشاهد، والأمر عابر، والحديث في هذا شائك، ودوما محفوف بالكلام الحلو، والفعل واحد. هل سيفلح مجتمع تدخلت «الواسطة» في تكوين ثقافته؟ فهد الطاسان عن شبكة «الإسلام اليوم»