يلزمني سكرتيرة لأحزاني.. سأتزوج المرأة التي تطبع دموعي وتصف الحروف وتنضد الكلمات على أناملها وتصحح أخطائي اللغوية.. ببساطة، يلزمني امرأة تأخذ بيد مخطوطتي إلى المطبعة كأنها حديقة، وحيث يخرج ديواني بكامل أناقته، وينتشر اسمي على آلاف النسخ، وصورتي على آلاف الأغلفة.. لا أجيد الطباعة على الكومبيوتر، وما زلت منحازا إلى القلم كصديق وفي، وهذه الصداقة أعتز بها، لكنني اكتشفت أنني أملك آلاف الأوراق المبعثرة هنا وهناك، ولا ملف يجمعها، في تلك اللحظة فكرت بامرأة ما، تؤرشفني تنظمني، تفهرسني.. أين هي؟! هذا ما قاله الشاعر الفوضوي منذ ولادته: «من تجمعني؟ من تلملمني؟ سأكون لها زوجا وفيا»، عندها لاحت له فكرة الزواج من سكرتيرة نشيطة ترتب أوراقه المتناثرة كأنه خريف شعري جوال طوال الفصول.. وما إن عثر صاحبنا، شاعرنا، على مبتغاه، تزوج أول سكرتيرة تعرف عليها في دار نشر وأنجبا أول ولد، ولكنه بعد مرور عامين على وصول ابنه صرخ «أريد امرأة تعشقني كأنني ولدها الوحيد». وقال لزوجته السكرتيرة «ما أرغبه كائنة ترعاني وترعى أطفالي من الكتب التي تولد كل سنة، وأنت منشغلة فقط بطفلك.. ألا تلاحظين أن موهبتي راحت تضمحل، من يسهر علي لا أريده ممرضة»! وابتسم له الحظ حين أبصر الممرضة وهي تشك الإبرة في شريان صديقه في أحد مستشفيات العاصمة، تلك الشكة الحنونة، أشعرته بوخزة الحب. طلق السكرتيرة. تزوج الممرضة. عسى ولعل أن تكون شافية لأوجاعه، رءومة، حنونة، مهدئة لأعصابه، وأن تكون كلماتها علب «فاليوم» لحياته المتوترة. شاعرنا غير المحظوظ، انقلبت حياته رأسا على عقب، إذ تحول بياض مريول الممرضة إلى لون غرابي أسود. وانقلب السرير إلى ضريح.. والزوجة الممرضة صارت مرضا وصرخ: «هذا الزواج صداع نصفي يلازمني.. اقترنت بك لتسهري على راحتي، لا أن تتحولي إلى حفارة قبور»، وأردف الشاعر «ما أحتاج إليه امرأة تفهم روحي لا جسدي.. ما أحتاج إليه مصل الروح لا مصل الماء. ما احتاج إليه قمر أبيض لا حبة إسبيرين». في تلك اللحظات من الشجار، دق الباب. إنها «اللغوية» صديقة زوجته الممرضة، جلست، حاورت, تحدثت. ثرثرا كثيرا، لكن اللغوية العاشقة للغة العربية دوخت شاعرنا، وسحرته. في تلك اللحظة استأذن زوجته ومشى صوب اللغوية كفعل مضارع وطلب يدها للزواج، فوافقت بالفصحى وقالت Yes، لكن الزوجة الممرضة التي انفصلت كفاصلة، ضحكت من أعمق نقطة في قلبها، وقالت لصديقها «صحتين على قلبك هذا الرجل، هذا المرض، وأتمنى لكما مبتدأ وخبرا ونهاية سعيدة!». لم يعرف صاحبنا الهارب من خطأ طبي أنه سيقع في خطأ لغوي كالزواج من امرأة شاعرة! شاعرنا الموهوم، الذي يفتش عن زوجة تناسبه، الحالم بامرأة مثقفة، تلقنه وتطعمه من يديها صنوبر اللغة وقمحها كأنه عصفور الكون الوحيد في هذا القفص الأرضي. ظن صاحبنا الذي اقترن بالمرأة اللغوية، أنها ستكون قارئته الغالية قبل النوم كشهرزاد الحكايات، وأنه سيعيش معها، ألف ليلة وليلة من كتب تقرؤها، وتحديدا كتبه ودواوينه! كأنها ستكون الملهمة والقارئة لقصائده وأشعاره، وأن تذوب شخصيتها في فنجانه كماء الورد. كان يحلم بها امرأة معجبة به طوال الوقت، كأن تلاحقه من لحظة وصوله وهي تستقبله بقصائده، إلقاء وإنشادا، وتقرأ شعره فوق رأسه وهو يأكل أو يشرب، أو حتى لحظة حلاقته لذقنه ليسمع خرير قصائده التي حفظتها الزوجة عن ظهر قلب، واستظهرت كل كلمة قالها، وجمعت كل أقواله المأثورة في صندوق ذهبي. شاعرنا الموهوب الموهوم، توقع أن المرأة اللغوية ستعلق قصائده على الحيطان كلوحات ويتحول الصالون إلى سوق عكاظ خاص به، كأن تقف على الكنبة المحشوة بكتبه، وتنشر معلقاته، ليصبح هو الشاعر والجمهور.. لكن، بعض الظن إثم، وبعض الأحلام كوابيس! وفعلا تحول منامه الوردي إلى وردة بلا لون، وانقلبت حياته الإبداعية من شجرة وارفة الظلال، إلى شجرة مليئة بالبوم. هي الحياة بلا طعم، بلا مذاق، بلا شيء تقريبا، وما جرى، هو أن شاعرنا بعد يومين من شهر العسل مع زوجته اللغوية، وبعد لحظات من الإفطار الشهي، قامت العروس وناولت عريسها مجموعة من دواوينها وقالت له: هذه مجموعاتي الشعرية، عليك أن تقرأ قصائدي ليل نهار على مسامعي.. أنا أحب الرجل الذي يقرؤني، لذلك اخترتك قارئا ذواقا لي. يا للمصيبة.. يا للهول. تحول شاعرنا إلى قارئ لم يتوقع هذه النهاية! لكنه راح يقرأ على مضض، ويجز على أسنانه من الغيظ، ما اضطره إلى أن يفقد ضرسين من الغضب، وبدأ صبره ينفد ديوانا تلو ديوان. وبدأت فكرة الجريمة تلوح له، بسبب هذه الخدعة الخديعة، الورطة. يجب أن تموت هذه المرأة اللغوية. فكر في حرف «السين».. أن يمتشقه كسكين ويذبحها. فكر في حرف «النون».. كوسادة ليخنقها وهي نائمة. فكر في حرف «اللام»، كحبل يمده حول عنقها ويشنقها. فكر في الألف، كمدقة يطحن بها رأسها وهي تشخر، أو تغرق في نقطة. شاعرنا قرر أن يستعين بكل عائلة «أبجد هوز»، كأنهم قتلة مأجورين، وكل الحروف لا يراها سوى أدوات قتل. لكنه خاف وارتعب، ولم يبق أمامه سوى الطلاق كبيت القصيد. وما إن قال لها «أنت طالق»، حتى وقع ضرس العقل من فمه. عندها راح يحلم بزوجة تعمل طبيبة أسنان.. عسى ولعل تعود الابتسامة إلى فمه. يحيى جابر