إذا كنا نعرف في ثقافتنا أن «الكذب حبله قصير»، ففي ثقافة الكنديين «الكذب حبله طويل ويكفي ليشنقك ويشنق كثيرا من أحلامك». كنت ولا زلت أقول لجميع الشباب السعوديين المتوجهين إلى كندا، لا تكذب أبدا حين تتعامل مع الجهات الرسمية، وفي بعض المواقف إذا كذبت مرة فلا تغير هذه الكذبة. أقول لا تغيرها لا أن تستمر في الكذب. حاول أن تتذكر كذبتك القديمة لكي لا تتناقض ويظهر لك الحبل الطويل الذي يلف حول رقبتك. هناك ثلاث جهات رسمية إياك أن تكذب عليها: الجوازات الكندية والجامعات والشرطة. سأحكي لكم ثلاثة مواقف: اثنان منها عايشت تفاصيلهما مع غيري، وموقف واحد حدث لي شخصيا نجوت فيه من حبل الكذب القاسي بأعجوبة! الموقف الأول: صاحبي «هارون» يعمل في مكتب الطلبة الإنترناشونال في الجامعة، اتصل به من مطار مدينة كالقاري شاب سعودي قادم جديد اسمه ماجد هبط للتو في الأراضي الكندية، وأوقفته الجوازات الكندية في المطار ومنع من صعود الطائرة المتوجهة إلى ريجاينا محطته الأخيرة. ماجد تحدث إلى هارون يناشد الجامعة التدخل ومساعدته في الموقف الصعب الذي يواجهه، ورغم أن الشاب لا يتحدث الإنجليزية بطلاقة إلا أنه كان يفهم ما يدور حوله. الجوازات الكندية طلبت منه العودة إلى السعودية ورفضت السماح له بالدخول. ببساطة سأله موظف الجوازات: إلى أين تريد الذهاب؟ أجاب: ريجاينا. الموظف: هل لديك قبول في جامعة ريجاينا ، قال: نعم . الموظف: هل قبول جامعة ريجاينا الذي معك هو نفس القبول الذي قدمته لاستخراج الفيزا. نعم هو نفس القبول! هل أنت متأكد؟ نعم متأكد. هل فهمت ماذا أقول لك؟! مرة أخرى أنا أسألك: هل هذا القبول الذي معك هو نفس القبول الذي تقدمت به لاستخراج الفيزا؟ ماجد يجيب بكل ثقة: نعم يا سيدي أفهم ما الذي تعنيه والجواب نعم! غضب الموظف وقال: أنت تكذب! أنت تقدمت لاستخراج الفيزا بقبول من معهد في مدينة أدمنتون وهذا ظاهر لدي في الجهاز! لن تدخل كندا. وقع في سوء كذبته الصغيرة وبارتباك حاول أن يعالج الموقف: آسف.. آسف هذا صحيح، فهمتك خطأ.. أرجوك سامحني.. أنا قدمت على معهد لغة في أدمنتون وأثناء انتظار الفيزا، قدمت على جامعة ريجاينا وجاءني قبول لغة وقبول أكاديمي من الجامعة فغيرت المدينة والوجهة وقررت القدوم إلى ريجاينا، حيث القبول! صدقني هذا كل ما في الأمر، وهذا هارون مسؤول عن الطلاب الإنترناشونال، تفضل تحدث إليه: أرجوك! الموظف بغضب: كان بإمكانك أن تحكي هذه القصة مبكرا. أخذ الموظف الجواز وشطب على الفيزا.. ومنعه من الدخول لكندا! اتصل الطالب على مكتب الإنترناشونال في جامعة ريجاينا، والمكتب اتصل علي، حضرت إلى هارون لنحاول علاج المشكلة، فهمنا قصة الطالب، وقال لنا تكفون توسطوا لنا! تحدثنا إلى موظف الجوازات.. وحاولنا تهدئة غضبه.. قلنا له هذا طالب جديد.. وربما كان قد حدث سوء فهم، ربما تكون اللغة عائقة.. وربما، وربما، خاطبناه بكل أدب.. نرجو منك التكرم بالسماح له بالدخول.. دراسته تبدأ بعد يومين.. الطالب لديه قبول معهد وقبول جامعي من جامعة ريجاينا. قال لنا الموظف بحزم: هذا الشخص لن يدخل كندا أبدا، وتم التنسيق وحجز مقعد له هذا المساء، ليعود من حيث أتى.. أشكركم لمحاولة المساعدة، هذا لطف منكم.. لكن الموضوع الآن ليس بيدي وحدي.. تم تسليم الملف للموظف المختص! أنهينا الحديث لنفكر ماذا يمكن أن نصنع! في هذه الأثناء، اتصل الطالب بوالده في «الرياض»، ثم تحدث إلينا والده يتوسلنا أن نصنع شيئا، اتصلنا مرة أخرى على الجوازات، حاولنا استعطاف الموظف بأبيه، رد علينا وقال: أنتم تضيعون وقتكم ووقتي، هذا الطالب لن يدخل كندا وموضوعه انتهى تماما.. تم التوقيع على عودته من مدير القسم.. وانتهت القضية بالكامل. وبالفعل.. في المساء عاد الطالب من المطار إلى السعودية وضاعت الآمال! اعتذرنا من والده بعد أن لامست آذاننا دمعاته. بكذبة بيضاء غير مقصودة.. لم يتعامل معها الموظف برحمة.. انتهت بعودته خائبا إلى الرياض. الموقف الثاني: اتصل بي سالم بعد أسبوعين من لقائي التعارفي الأول به.. يقول عندي مشكلة مع مكتب القبول في الجامعة، فقد قدمت على كلية الهندسة، ولم أكتب في الأبلكيشن أنني درست فصلا دراسيا في الجامعة، وسألتني الموظفة شفويا: ماذا كنت تعمل بعد تخرجك منذ عام؟ قلت لها: درست فصلا في الجامعة وحذفت! سألتني: لماذا لم تذكر ذلك في الأبلكيشن؟ لا بد أن تحضر ورقة من الجامعة أنك حذفت، أو تحضر سجلك الأكاديمي الذي يحوي المواد التي درستها! قلت له: الأمر سهل، أحضر لها سجلك الأكاديمي!. قال: لا.. صعبة! سألته: طيب.. يا سالم، لماذا لم تذكر في الأبلكيشن أنك درست في الجامعة؟ أجاب: أنا أصلا.. لم أملأ الأبلكيشن بنفسي.. ولم أر الأبلكيشن أصلا ولا أعرف شكله! من ملأه لك وكتب معلوماتك؟ إنه زميل لي في فانكوفر.. أرسلت له جميع أوراقي وبياناتي وهو تولى الموضوع! ثم سألني: ما رأيك أن نقول لهم إني لست أنا الشخص الذي ملأ الأبلكيشن أصلا؟! قلت له: هل جننت؟! هل تعرف أن التوقيع الموجود في نهاية الأبلكيشن لا بد أن يكون هو توقيعك، هذه جناية قد تتسبب في مشاكل لا تقتصر على القبول فقط، بل ربما تورط غيرك معك! واعدته بعد يومين.. وذهبنا إلى مكتب القبول.. وقبل أن أدخل على الموظفة، قلت له: يا سالم ذكرني بالضبط بكل شيء قلته لها وبدقة! قال: كما تعلم.. أنا لغتي ضعيفة.. فاستعنت بإبراهيم يترجم لي.. وفحوى الكلام الذي قلناه له هو: إنني درست في الجامعة فصلا دراسيا واحدا ولم أكمله، وإن قانون الجامعات في السعودية لا يعطي الطالب أي ورقة إذا لم يكمل دراسة الفصل كاملا!. حسنا.. دخلت على الموظفة كاثرين وكنت قد تعاملت معها في السابق كثيرا.. فهي تعرفني جيدا، حاولت أن أستفيد من معرفتي بها لإقناعها في تمرير هذا الموقف والتغاضي عن موضوع إحضار ورقة من الجامعة في السعودية وتشفعت بمعدل الطالب! قالت لي: صاحبك في كل مرة يقول لنا قصة مختلفة ومديري شك في مصداقية شهادته، هذا الطالب يكذب علينا! سألتها: ماذا قال لكم؟ قالت: في المرة الأولى قال عن طريق المترجم إبراهيم إنه درس عاما كاملا في جامعة الملك سعود ونجح فيها بامتياز. ولما سألناه أن يحضر سجله الأكاديمي من الجامعة ذهب وعاد لنا اليوم التالي وقال إنه لم يدرس عاما وإنما يقصد فصلا واحدا وحذف المواد بعد شهر، وعاودنا الطلب بأن يحضر أي ورقة تثبت أنه أخذ مواد وحذفها، نريد التأكد فقط أنه لم يتم طرده من الجامعة هذا كل ما في الأمر، فلا تعنينا الدرجات ولا أي شيء آخر! كنت مصدوما لهذه المعلومات التي لم يخبرني بها. ثم باغتتني بسؤال: هل تعرف سلطان جيدا؟ خشيت أن أفقد الثقة والسمعة الحسنة في الجامعة، قلت لها الحقيقة: معرفتي به محدودة لا تتعدى يومين، لكنني أحاول مساعدته ويبدو لي أنه لطيف ولا أعتقد أن شهادته مزورة! قالت: هل تصدق.. اليوم جاءنا في الصباح وذكر أنه في الحقيقة لم يدرس بالجامعة وإنما درس في معهد لغة إنجليزية.. آنا آسفة أن أقول لك: هذا الطالب لن نقبله! الموقف الثالث: حين قدمت إلى كندا للمرة الأولى قبل خمسة أعوام، كان بصحبتي ثلاث «شنط» من ذوات الأحجام الكبيرة، وفي المطار سلمت موظف الجمارك الورقة التوضيحية التي وزعت علينا في الطائرة وتحوي معلومات عن محتويات الشنط، ويبدو أن حجم الشنط كان لافتا للنظر. لم يدعني الموظف أمر دون تفتيش وتم إيقافي للتأكد من صحة المعلومات التي في الورقة. ابتدأ الموظف بأكبر الشنط وفي طريقه لفتحها، سألني: هل تحوي شنطتك أي سوائل، عطورا، أو شيئا مشابها لذلك؟ قلت بكل ثقة: لا. سؤال آخر: هل لديك أي شيء حاد؟ لا.. خطر في بالي أنه يقصد سكينا! حسنا.. فتح الموظف الشنطة، أول شيء وقعت يده عليه، كيس به عشرة عطور أدخلتها أمي في الشنطة دون علمي! نثر الشنطة ووجد بها كيسا آخر يحوي أمواسا وأدوات حلاقة. محاولة شديدة لأبلع ما تبقى في فمي من لعاب ناشف! رمقني بنظرة ساخرة: لا يوجد لديك سوائل.. هاه؟ هذه ماذا تسمونها؟ لولا أن ضربتين في الرأس توجع لقلت له هذه نسميها «عصير أمزح»! مباشرة قلت له: أنا أعلم أنك تعتقد أنني أكذب عليك، لكن دعني أقول لك الحكاية بكل صدق، ربما لن يكون ما أقوله مقنعا وأعلم أن ذلك ليس مقبولا ولا يعد عذرا معتبرا، وبعد أن تسمعني.. أنا مستعد لأي عقوبة بحقي.. فقط أشرح لك. الذي ساعدني في ترتيب أغراضي هي والدتي حرسها الله.. ربما يبدو سخيفا لديكم.. لكن هذا الواقع.. أنا لم أشتر عطورا.. ولم أتحقق من وجودها.. ربما الوالدة تفضلت علي بهذه العطور لكنني حقيقة لا علم لدي بها! أما الأمواس، لن أقول الوالدة أيضا.. أنا نسيتها تماما، فأنت حينما سألتني هل لديك شيء حاد.. خطر في ذهني مباشرة أدوات القتل من سكاكين وغيرها فأجبتك بالنفي! شخصيا.. توقعت أن يصادر جميع الشنط.. وأن يتهمني بأي تهمة وأن يتم إيقافي.. تهيأت نفسيا لأي مصيبة تحل بي.. وذهبت بي الخواطر بعيدا. قلت في نفسي: ربما تكون فرصة سانحة ليقول هذا إرهابي يكذب! لم تكن تهمة الإرهاب تحتاج إلى أكثر من موسى وجواز أخضر، وهذي هي الفرصة الذهبية أمامه. المفاجأة.. أعاد الأغراض إلى الشنطة.. وشخط على الورقة التوضيحية.. وقال لي: لا بد أن تعلم أن عقوبة هذا الخطأ قد يكلفك وجودك في البلد، حاول أن ترتب أغراضك بنفسك وأن تتأكد من كل ما تكتبه وكن دقيقا. لم أكن أتوقع أن يسمح لي بالمغادرة هكذا.. بهذه السهولة! لا أدري.. ربما لمح آثار الخوف في وجهي.. وكأنه صدقني فاكتفى بذلك الرعب عقوبة لي. مدونة سلطان الجميري http://aljumeri.net/wp