لم يكن التطور الذي شهده قطاع القضاء في المملكة بخاف على أحد، على الرغم من استمرار الأصوات الداعية لمزيد من التطوير لمواجهة الزيادة المستمرة في عدد السكان، التي بلغت فيها نسبة النمو 2.2 % «وفق آخر الإحصاءات المعلنة في 2010 من مصلحة الإحصاءات العامة». لكن الجميع يعرف أن عدد القضاة الذين لم يكن يتجاوز عددهم رسميا في 2008 الموافق 1429ه نحو 723 قاضيا، قفز بعد عامين «حسب تصريحات رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد في محرم 2010»، إلى 1300 قاض. ما زالت نسبة عدد القضاة مقارنة بعدد السكان، تراوح مكانها في حدود قاض واحد لكل 32 ألف نسمة «ويكبيديا»، وقاض واحد لكل 33 ألف نسمة «وزارة العدل»، وقاض واحد لكل نحو 21 ألف نسمة «حسب تصنيف الحميد لعدد القضاة، وإحصائية تعداد 2010 التي تشير إلى أن عدد السكان 27136977 نسمة». ورغم أن المصادر في وزارة العدل سبق أن تفاءلت بارتفاع عدد القضاة إلى 1600 قاض بنهاية 2007، إلا أن ابن حميد أعلن في بداية 2010 أن إجمالي الزيادة المرتقبة حتى نهاية العام 450 وظيفة «تم هذا العام استحداث 120 وظيفة قاضي استئناف و30 وظيفة رئيس محكمة استئناف و300 وظيفة ملازم قضائي»، متمسكا بإحصائية الرقم 1300 قاض؛ ما يعني أن عدد القضاة سيصل إلى 1750 قاضيا بنهاية 2010، ليرتفع المعدل إلى «قاض لكل 15 ألف نسمة». لكن أسوأ واقع مجاور يقول إن هناك قاضيا واحدا لكل ثلاثة آلاف نسمة، وهو المتوسط في معظم دول العالم، بينما يشير الوضع المثالي إلى قاض لكل ألفي نسمة، وهو المطبق في بريطانيا التي تحتضن نحو 50 ألف قاض. ولعل تلك النسب تشير إلى أن المملكة في حاجة إلى 9100 قاض ليعادل المتوسط العالمي، أو 13650 قاضيا ليعادل أفضل وضع قضاة في الدول المتحضرة. من هنا يبرز العجز، ومن هنا تبدأ التساؤلات، متى يمكن أن نوفر 7350 قاضيا، ليتحقق التوازن المطلوب، وهل ميزانية السبعة مليارات ريال المخصصة لتطوير قطاع القضاء في المملكة، حسب تطلعات ولاة الأمر يجب أن تخصص ميزانية تقدر بنحو 72.5 مليون ريال رواتب سنوية «9858 ريال معدل راتب القاضي». ولكن بافتراض تخصيص تلك الموازنة، وتوفير تلك المسميات الوظيفية بدءا من ملازمين قضائيين، أو خلافه، فمن أين يمكن أن يتوافر ذلك العدد من القضاة المؤهلين، أو القابلين للتأهيل لتولي زمام الأمور؟ «شمس» فتحت ملف عجز القضاة من زاوية ما يعرف في الأوساط الشبابية بظاهرة «الهروب من واقع القضاة»، للتعرف على الأسباب، وتشخيص المشكلة لا من باب نكء الجراح، بل للعلاج في إطار الحرص على المصلحة العامة. بوابة لمن؟ يشير الاختصاصيون إلى أن الوصول إلى بوابة القضاء لا يجب إلا عبر عدة نوافذ تعليمية تشمل على الترتيب خريجي المعهد العالي للقضاء، وخريجي الدبلوم العالي من معهد الإدارة العامة دبلوم دراسات الأنظمة، وخريجي البكالوريوس من كليات الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وفرعها في الأحساء، جامعة القصيم، جامعة أم القرى، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، جامعة الملك خالد بأبها. وفيما يتجاوز عدد الخريجين من تلك الجهات أكثر من 500 خريج «على أقل تقدير» فإن التعيينات لا تواكب تلك الأعداد من الخريجين. وأخيرا أعلن عن موافقة المجلس الأعلى للقضاء على ترشيح 104 خريجين من عدة جامعات «جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة القصيم، والمعهد العالي للقضاء»، للعمل في السلك القضائي، منهم 73 مرشحا من خريجي الفصل الدراسي الثاني لعام 1429/1430 ه، من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ كليتي الشريعة في الرياضوالأحساء، 20 مرشحا من المعهد العالي للقضاء، 11 مرشحا من خريجي الفصل الدراسي الأول 1429/1430ه من جامعة القصيم. من هنا يتبادر للذهن أين يذهب بقية الخريجين؟ ولماذا لا يتم استيعابهم ما دام هناك توافق في التخصصات مع الوظيفة؟ وهل من معايير أخرى يتم وفقها التعيين ما زالت للأسف بعيدة عن واقع الخريجين؟ وماذا يعني اختيار 104 فقط من بين المئات من الخريجين؟ وإذا كان مجال القضاء من المجالات الحساسة في مجتمعنا المتميز باحتكامه للشريعة الإسلامية، التي لا يجب فيها الإفراط في قواعد الاختيار، ولا التفريط في مقومات الأحكام، أفليس التأهيل قادرا على بلوغ المرام، وتصعيد نصف التميز لخانة التميز، من بوابة النصح والتناصح؟ لن ندخله عدد من طلاب الشريعة خصوا «شمس» بانطباعاتهم الشخصية، في مجال القضاة، وأعلنوها بجرأة «إنا لن ندخلها»، وكشفوا أن عددا من المتفوقين من زملائهم فضلوا الابتعاد عن هذا الباب نهائيا، لا من حيث طرقه أو الخضوع لمعايير الانتقاء القريبة منه. أما السبب من وجهة نظرهم، فإنه يعود للعواقب الأخروية، وما يمكن أن ينتظرهم من عقاب إذا أخطؤوا التصويب في العقوبات والأحكام، مستدلين على ذلك بقاعدة « قاض في الجنة وقاضيان في النار». والغريب أن بعض المتفوقين باتوا يقرؤون الحديث على غرار قراءة الآية الكريمة «لا تقربوا الصلاة»، فلم يكملوا الحديث والذي نص كاملا على «القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق فقضى به وقاض علم الحق فلم يقض به وقاض قضى بجهل فهما في النار» رواه أبو داود. فما الذي يجعل طلاب العلم الشرعيين يميلون لتغييب التفسير، رغم أنهم الأجدر بمعرفة روح التفسير؟ بعض من طلاب الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية اعترفوا بعلمهم المسبق أن القاضي الواحد في المملكة ربما يفصل في ثماني قضايا يوميا «القاضي ينظر في 961 جلسة خلال العام، 80 جلسة خلال الشهر، 4 جلسات خلال اليوم، حسب إحصائية وزارة العدل 1429ه»، ومع ذلك لم يخالج المتفوقين شعور بالمساهمة في تقليص العدد وصولا لتسريع التقاضي، وصدور الأحكام. لكن البعض الآخر من غير المتفوقين ينظر للبوابة من زاوية «ممنوعون من الدخول»، ويتمسكون بتصريحات وزير العدل محمد العيسى الأخيرة التي أعلن فيها خلال اجتماع لمناقشة الخطة الإستراتيجية لوزارة العدل في مقر الوزرة بالرياض في 10/11/2009 «ليس السبب في تأخر البت في بعض القضايا قلة أعداد القضاة، إذ لا يوجد نقص في أعدادهم إطلاقا»، وأعلنوا من جانبهم أن التأكيدات تدلل على «أنهم لا يريدوننا، كيف ندخل والأبواب موصدة، والتعيينات لا تتوافق مع حجم التخرج، والخريجون يتزايدون، والقضايا تتراكم، والوزارة لا ترى أهمية للتعيين». إلا أن النظرة الأخرى في ملف المنع والتمنع، تأتي من بعض الاختصاصيين بالتأكيد على أن غياب الشفافية «ليست لدينا خطة واضحة لتأهيل طلاب الشرعية، وهناك تسرب من القضاء لشغر وظائف ليست من صميم عمل القضاة». منع واضح ويعد نموذج مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف في أحد أحياء منطقة الرياض عبدالله بن إبراهيم، الأبرز في تعمد التهرب من بوابة القضاة، تمنعا من الداخل «ومنعا للنفس من أن تحقق هواها في التقرب لمجال الفصل بين الخصوم، والاغترار بالعلم أو الإمساك بسلطة السيف والفصل». ويكشف إبراهيم ل «شمس»، أن معدلاته كانت مرتفعة بشكل كبير، يؤهله للالتحاق بالمعهد العالي للقضاء «استدعيت بعد التخرج من قبل اللجنة لإجراء المقابلة الشخصية، المؤهلة للدخول في معترك المحاكم، ولم أكن يوما أظن أنني سوف أكون قاضيا، لذلك قررت الانسحاب بهدوء، والتوجه إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي لا تقل أجرا ورسالة يحيا بها المسلم، لكنها تقل جرأة على الفصل، في النزاعات». ويشير إلى أنه سمع من زميله المقرب الذي يعمل قاضيا في الحدود الشمالية عن كم المعاناة التي يواجهها في الفصل بين الناس والهم الذي يعتريه في الليل والنهار «أبلغني أنه لا ينسى قصة زميله الذي فضل النوم في غرفة أخرى بعيدا عن زوجته، ويبحث فيها القضايا المعقدة بين فترة وأخرى، والجرائم البشعة التي تعرض عليه، وأتذكر أن زميلي تغيرت أحواله من بعد أن أصبح قاضيا، وبالاستفسار منه أجاب أنه يخشى يوما أن يظلم شخصا بغير قصد؛ لذا خفت من الموقف الذي أسأل فيه، وقررت الانسحاب ومنع نفسي من تحقيق هواها من بداية الطريق». ناج من القضاء أما خريج الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود منذ سبعة أعوام محمد العتيق، فبعد تفوقه وتخطيه الفصول، وحصوله على أعلى معدل، غير المسلك نهائيا «سمعت من بعض زملائي أنه ربما أرشح إلى دراسة القضاء في المعهد العالي للقضاء، وهنا أردت أن أضع حلا جذريا في حياتي، ودخلت الامتحان النهائي ووجدت الأسئلة أمامي وبدأت أفكر طويلا في الجنة والنار، والفصل في القضايا، والأمانة، فقررت أن أجيب خطأ في كل سؤال وسلمت الورقة، وحصلت على معدل بسيط ، وقدمت على وزارة التربية والتعليم وأصبحت مدرسا للعلوم الشرعية، ونجوت من القضاء ومارست حياتي بكل حرية حيث إنني سمعت من زملائي القضاة أن ممارسة القضاء يؤثر في نفسية الرجل في حياته، وبين أولاده في الهم الذي يحمله، كما أن القضايا تحتاج إلى بحث مكثف وغيرها من الأمور التي تحجب الإنسان عن واقعه». انسحاب وتساقط ويرى طالب العلوم الشرعية في المستوى الخامس محمد البواردي أن أغلب من يرشح من الطلاب لدخول المعهد العالي للقضاء هم من الطلاب المتفوقين في العلم والتحصيل، وهناك العديد من الطلاب منذ المراحل الأولى وتظهر فيهم علامات الذكاء والبروز بين الطلبة في العلم «جرت العادة كما علمنا أن المتميز في كلية الشريعة يوصي عليهم من بداية دراسته، لاختياره قاضيا في المستقبل بعد التحاقه بمعهد القضاء الأعلى، ويلاحظ من بين صفوف الطلاب عينات عديدة لا تهتم بالتحصيل العلمي المتميز، بالرغم من قوة التأهيل في كلية الشريعة من علماء وأساتذة لا يشق لهم غبار في العلم، كما أن هناك العديد من الطلاب يسعى إلى أن يكون من ضمن المرشحين للقضاء، ومع ذلك لا يستطيع أن يكمل مشواره لصعوبة المواد التي يدرسها، فيما البعض يدرس العلوم الشرعية للعلم فقط دون أي شيء آخر، ويتفوق على زملائه، ويذهب بعد الجامعة في طلب العلم في المساجد على يد العلماء ويأخذ من علمهم» .