لو أتيحت لك عزيزي القارئ فرصة زيارة إحدى المدن الأوروبية أو العربية العريقة، وكنت سائحا لا تجذبك المجمعات التجارية أو المقاهي الحديثة ومدن الألعاب والملاهي على عكس بعض السياح السعوديين، فتقودك الخطى بعيدا عن هذه المستعمرات الخليجية، سترى وجها آخر للمدينة لم تعتد أن تراه داخل تلك المدن الرطبة التي هربت من سخونة قيظها وازدحامها المضجر، وربما ستتعجب من قدرة تلك المدن على الحفاظ على تاريخها رغم توالي السنين والمد الحضاري الذي اجتاح غالبية مناطق العالم. وربما زاد تعجبك حتى وصل ذروة الدهشة وأنت تمر ببناء شيد قبل عشرات السنين أو حين تعبر شارعا تنتشر حول ضفتيه أشجار غرست قبل مئات السنين، وحتما لن تفارقك الدهشة حين تمر بالمتاحف والأماكن التاريخية الخالدة لتلك المدن، وستتحسر على التاريخ الضائع لمدن لم تترك لها المعاول المرفوعة، باسم التوسعات تارة والتقدم تارة أخرى، فرصة الحفاظ عليه لتراه الأجيال اللاحقة. مدن بلا ذاكرة.. هو أصدق وصف يمكن أن نطلقه على مدننا التي طمست فيها الشواهد التاريخية لأيام كان يعيش فيها الأجداد، تتبدل أسماء الشوارع عدة مرات، وتزال المباني القديمة بحجة إقامة مبان أحدث رغم أن «أرض الله واسعة»، ويدفن البحر، وتضيع هوية الأمكنة القديمة ولا نجد سوى الأسف وبعض الوعود التي لا تدخل حيز التنفيذ وتبقى حبرا على ورق الصحف. نقدر الحرص على تطوير المدن في ظل هذا الانفجار السكاني الذي نشهده، لكن اتركوا للأجيال اللاحقة جزءا ولو يسيرا من تاريخنا الذي أودعناه في هذه الأماكن، دعوا لنا شاهدا يثبت أننا مررنا ذات يوم من هنا، لا تخفوا ملامحنا.. خطانا.. ذاكرتنا.. آثارنا البسيطة التي لا تهم أحدا سوانا.. اتركوا للشوارع أسماءها، وللأسواق رائحتها التي نعشق، وللحدائق فوضاها الجميلة، وللبحر صخبه الفاتن، وسنكون لكم من الشاكرين.