«وينك يا القاطعة؟» أول عبارة أتلقاها حينما أرتكب خطأ بالرد على مكالمة إحدى صديقاتي القديمات جدا، التي فصلتني عنها الحياة والمشاغل والاهتمامات والانتقالات التي لا تنتهي، أضحك بخجل أمام ذكرى الأعوام التي جمعتنا وأحاول أن أعتذر وأرتجل «ترقيعة» مناسبة حتى لا أخسر صداقتها. أحب الكثير من صديقاتي لكن لا أستطيع أن أقولها في وجوههن: «أنتم طاقة سلبية تسحبني للأسفل، بل تكبلني في القاع». نعم أنا أحتفظ بهذه الجملة في داخلي دائما، لكنها الحقيقة. قررت قبل ما يقارب عامين حينما كنت غارقة في الكآبة، وكلما انتقلت للقاء أو مهاتفة إحداهن تأتيني جواباتها أو أسئلتها كالصاعقة تفتت ما تبقى داخلي من صبر أو احتمال، والكارثة حينما أقرر أن أكون صادقة وأجيب عن أسئلتهم بما أحلم أو أستعد للقيام به تأتيني الطلقات قاتلة ومحبطة جدا: - يوه أنت لسه فاكرة؟ يا اختي إيش ورانا غير القبر؟ انت لسه ما عقلتي؟ يا حبيبتي الله لا يشغلنا إلا بطاعته! رااااحت عليك يا ميشا! سلمي للواقع! ما راح تلقين وقت! خلاص الواحد ما يدري هو بيحيا ولا يموت؟ واللي نجحوا إيش أخذوا للقبر؟ أو التي تحاول تخفيف حدة هذه الردود عليّ تضحك وكأنني ألقيت عليها نكتة مضحكة، دائما أردد في نفسي: «لتقل خيرا أو لتصمت». لكنهن لا يفكرن بفداحة أقوالهن، يلقين الكلمات هكذا دون أي تفكير، يستمتعن بالشكوى ويقفن في وجه النقاش من أجل الحلول، نصف محيطي محبط حقا بسلبية يعيشها هذا النصف بطريقة أتعجّب أحيانا كيف لهنّ أن يحتملن حياتهن، يجتمعن من أجل تبادل السلبية بنصائح تجعلني أنفلت أحيانا رغم أني أقسمت ألا أتدخل في مزيجهن الغريب؛ لأنني أنا التي أعدّ غريبة بينهن، فأي تفاعل مع حدث عالمي يعتبرنه: «فضاوة»، وأي محاولة للمشاركة في حملة أو فكرة من أجل المجتمع يعتبرنه: «تدخلا فيما لا يعنينا»، وأي محاولة للتطوير وارتقاء ذاتي يسمينه: «ضياع فلوس»، وأي حديث أو نقاش يفتح معهن في مسألة يحاولن إسكاتي بدعوى أنني «خربت»، وأن الحديث الذي لا داعي منه يفضي إلى النار، ثم يعدن ليستأنفن الحديث عن لبس فلانة وكلمات علاّنة، والشكوى التي لا تنتهي وندب الحظ على شريك الحياة، وكل هذا بنظرهن سبب الوجود. من أجل كل هذا ابتعدت عن المحيط المحبط الذي يجعلني أشعر بفداحة كوني أشارك في جلسات مثل هذه، وربما لو كنا نحضّر الأرواح لكان عليّ أسهل من مجاراة أحاديث لا تسمن ولا تغني من جوع.. أنا الكئيبة الصامتة في أنظارهن، فحالتي تغيّرت وربما أنا صرت مدعاة للشفقة، أجلس في طرف الجلسة وأحاول فهم ما يدور هنا وماذا أفعل أنا هنا أصلا؟ لماذا كل هذا العناء؟ لستُ مجبرة على المجاراة أو المجاملة.. ابتعدتُ شيئا فشيئا حتى أصبحت «القاطعة» في نظرهن.. أكتفي بالتهنئة بالعيدين، وبالمناسبات السعيدة، وحتى في الأوقات الصعبة أكون أول الحاضرين للمؤازرة، لا أعتقد أنني خنت ذكريات الزمن الماضي، وما جمعنا من أعوام، لكن أنا آسفة لا أستطيع أن أقترب أكثر؛ لأن الاقتراب يصيبني بالجنون وليس لدي من أيامي التي ضاع منها الكثير أصلا ما ألقيه في جلسات لا تنفعني.. لست ضد الشكوى، لكن أكره أن تكون هي نمط كل لقاءاتنا أو المهاتفات، ربما أجد وقتا حينما انضم ل»القواعد من النساء»، في العودة للجلوس معكن، لكن الآن لدي الكثير لأفعله، فلا ينقصني أن أستمع لكلمات مثبطة أو نصائح تعود عليّ بالسلب. انتشلتُني بالقوة من واقع الإحباط والاستسلام، وأشعر الآن بسعادة غامرة أن اتخذت هذا الإجراء الذي يعد أول القرارات الجادة في عمري؛ لذلك عذرا يا جميلات لا أستطيع المواصلة، كفى عتابا وكفى ملاما.. أستعد لعمل الكثير في الأعوام المقبلة، وأستطيع أن أعلن الآن رغم كل شيء: أنا سعيدة الآن والحمد لله. هذا.. أما النصف الثاني من محيطي، الجميلات الداعمات اللاتي يتقاسمن معي كل شيء ويعرفن كيف يوازنَّ بين كل ما يمر بهن؛ فأتمسك بهن حتى آخر أيامي لا أقصدهن أبدا.