حين قراءة بعض سير الفقهاء وتراجمهم.. يشدني ربط كثير من الفقهاء الكبار بمدارس فقهية مذهبية أو دور تعليمية خاصة، فقد يقول أصحاب التراجم: فلان كان إمام مدرسة الحنابلة ببغداد أو كبير مدرسة الشافعية في مصر. مجموعات كبيرة من تجمعات التعليم المدرسية، ومدارس خاصة لكل مذهب واتجاه من الحنابلة والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم.. تحمل طابعا خاصا وفريدا تستحق الدراسة والتأمل، لعله يفتح شهية الباحثين والدارسين لتحليل مبتكر. تلك المدارس كتب عنها أكثر أهل تلك المذاهب التي تمثلها، فثمة كتب خاصة لابن بدران الحنبلي مثلا عن مدارس الحنابلة تاريخيا ومواقعها وأسمائها وأوقافها والدارسين فيها ومعلميها، وغير ذلك من المعلومات التفصيلية الممتعة، ولكل مذهب كتب كثيرة ممتلئة بالدقائق الجغرافية والعلمية والتاريخية عن تأسيس كل تلك المدارس الحقيقية التي أشبه ما تكون بمدارس اليوم التعليمية، غير أن لها طابعا مختلفا يميزها عن مدارس اليوم. مدارس الفقهاء القديمة كانت «مستقلة» تدعم نفسها وتدير شؤونها بنفسها.. بل لها استقلالها الاقتصادي التام، فهي عبر آلية «الوقف» المسنودة فقهيا أيضا تمول نفسها، وربما وضعت شروطا لمن يديرها ولمن يعمل فيها. ومع الأيام شكلت كل مدرسة تراثا ثريا من مكتبات المتعلمين ومما يوصي به ويوقفه فقهاء تلك المدرسة والمنتمون للمذهب الذي تمثله تلك المدرسة، فكلما مات مهتم أو عالم أو طالب محب لتلك المدرسة، فهو في الغالب يجعل من تراثه ومكتبته وقفا موصى به لهذه المدرسة الفقهية المعينة أو تلك. تلك المدارس الفقهية بالعموم شكلت نفسها عبر الطريقة المدرسية والمنهجية لكل مذهب فقهي وطورت نفسها عبر ما يسمون بأصحاب الوجوه وعمد المذهب الذين يضيفون لكل مدرسة طابعا علميا فريدا تتميز به، وهؤلاء الكبار وأعمدة المذهب في الغالب يقومون على تلك الدار أو المدرسة بالرعاية والاهتمام المباشر أو ربما جلسوا فيها أغلب الوقت تعلما وتعليما وقراءة ومدارسة، فتتكون مع الأجيال عادات علمية وأكاديمية مستقلة لكل مدرسة، ويشكلون حضورا اجتماعيا في المناسبات وفي الشارع، وربما ضغطوا باتجاه التوسعة عليهم أو حاولوا إقناع السلطان بهذا الرأي أو ذاك أو بتبني رأيهم أو دعم قضاتهم، وربما تركوا ذلك كله وشكلوا إدارة ذاتية لا تتصارع مع أحد ولا تختلف مع أحد ولكنها بتمام الاستقلال والتميز.