أدرس الآن عن الخلفية التاريخية الاجتماعية والثقافية السائدة في العصر الفيكتوري «القرن الثامن عشر» وما قبله في أمريكا وبريطانيا. كم أذهلني كم المتشابهات بين مجتمعنا العربي في القرن الحادي والعشرين وبين تلك العصور السحيقة!. الرواية الشهيرة (Pride & Prejudice) التي قامت هوليوود بتصويرها في فيلم جميل تحت ذات الاسم.. صوّر بعضا مما كانت تعيشه تلك الحقبة. ابتداء بكاتبة الرواية ذاتها «جين اوستن» التي كانت تنشر كتاباتها تحت اسم مستعار لأنه من غير المقبول عرفا أن تنشر فتاة قصائد أو روايات باسمها الحقيقي! ثم نأتي على أحداث الرواية التي تصور أن تقدير المجتمع لك لن يكون بسبب ذكائك أو بسالتك وشجاعتك أو قيمك ومبادئك أو شخصيتك أو مواهبك، سيكون تقديرهم مرتفعا لك في حال كنت من الطبقة الارستقراطية النبيلة، فكانوا يستميتون في سبيل ذلك الشرف! فلو كنت غبيا قبيحا اتكاليا فاشلا، ثم ورثت عن أحد أعمامك ثروة مهولة.. سترفعك من طبقة إلى أخرى، لتصبح فارس زمانك الذي لا يعلو فوق شأنه أحد من حوله! تتحدث الرواية أيضا عن استماتة الفتيات في الحصول على زوج «من الفئة أعلاه» وذلك أقصى ما يمكن أن تطمح إليه الفتاة لسببين: أنها لا ترث إطلاقا، وأنها ممنوعة من العمل! والمنع من العمل ولّد لدى تلكم النساء الثرثرة وتنامت هواية النميمة، لا سيّما بعد كل حفل! ألا يذكركم ذلك بشيء؟ فتقديس الطبقية والحكم عل الآخرين بمقياس ما يملكون، الاتكالية والبذخ، وتهميش دور المرأة والتعالي والقيل والقال والتكاسل وعدم الجدّية في العمل، كلها سمّات ميزت ذاك العصر بشكل بارز. درست أيضا عن البيورتانية.. وهي جماعة متزمتة هاجرت من بريطانيا - عند عجزها عن تطهير الكنيسة - إلى هولندا ثم إلى أمريكا، لأنها أرادت الإصلاح وحماية تعاليم الكنيسة والحفاظ على القيم الأخلاقية. اقرؤوا عن هؤلاء الجماعة (Puritanism) لتعرفوا كم يشبهون الجماعات المتشددة لدينا! كانوا صارمين في تطبيق تعاليمهم، يعتقدون أنهم شعب الله المختار؛ ولذا يجب أن يعملوا بجد ويخلصوا لتعاليم الكتاب المقدس دون الرجوع للقسيسين «الفاسدين» كما يرونهم! وكانوا يحرمون على أنفسهم استخدام المواصلات والآلات الحديثة، يحرمون مشاهدة التلفزيون والذهاب للسينما ولعب كرة القدم وكرة السلّة، ولا وجود لمحال السوبرماركت أو المصانع بعقيدتهم.. والضحك عندهم مستهجن، ولباسهم إما أسود أو رمادي غالبا.. يعيشون في بيوت بدائية منعزلين. كانوا يقومون بذلك كلّه باسم تطهير الدين وحمايته! وأتخيل أن «نيو انجلاند» المستعمرة البيورتانية كانت أفغانستان ذاك الزمان! الجدير بالذكر أن مصطلح البيورتاني يطلق الآن على الشخص المتشدد المنعزل نسبة لهم. هذه ليست إلا أمثلة عما كان يحدث في عصور الظلام، لتأتي بعدها نهضة عظيمة جعلت المتناحرين إخوة سواسية، وعلت قيمة الإنسان بمؤهلاته الشخصية وما يميّزه عن غيره دون الاكتراث بشكل مباشر لكمية ما يملك في رصيده! ونهضتهم هذه رفعت مستوى التعاملات والأخلاقيات بينهم من بشر متوحشين إلى متحضرين. أوروبا التي عانت ويلات الحروب، هي الآن تحت اتحاد أوروبي واحد تجول بين نواحيها دون أن تستوقف لتسأل عن هويتك! أمريكا ذات العنصرية الرجعية سمت عن ماضيها لتنصب رجلا أسود حاكما عليها! تلكم الإناث المستعبدات يشهد لهن التاريخ بانتصار عظيم في مساواة حقوقها بالرجل. شعرت بشيء من الاحباط.. إذ قُدّر لي ألا أشهد نهضتنا نحن، لأنه ببساطة يفصلني عنها عشرات السنين، مع الكثير من الكفاح! أكره أن أختم تدوينتي بسلبية.. وما تلك إلا رؤيتي الخاصة التي أتمنى على الله أن يخيبها ويعجّل بنهضتنا أو يؤخرني إليها مدونة: باستيل