قبل أيام كنت أطالع على القناة الأولى سهرة استضافت فنانا ومطربا وشاعرا شعبيا. وبت ألاحظ أن الفنان والمطرب والشاعر، أقصد أي فنان وأي مطرب وأي شاعر، ثلاثي أصبح لزاما علينا أن نتوقع حضورهم في أي برنامج شئنا أم أبينا، وكأن غياب أحدهم ناقض من نواقض «السهرة». وحتى لا أطيل، فقد استرعى انتباهي، مديح الشاعر الشعبي غير المحدود لتطور التلفزيون، مع ابدائه ملحوظة قال إنه لا بد من أخذها بعين الاعتبار: «التلفزيون لا يعنى بالشعر الشعبي كما ينبغي ولا يقدم برامج كافية لتغطية فعالياته». الأخ الشاعر يرى أن 66 قناة شعبية و230 مسابقة في الشعر لا تكفي على الإطلاق. كلا. يريد أن تصبح القنوات 660 وأن يرتفع عدد المسابقات إلى 2300 على الأقل وإلا فإن الشعر الشعبي سيكون واحدا من المظاليم في الأرض. ولست أريد أن يُحمل كلامي هذا على أنني ضد الشعر الشعبي. على الإطلاق. أتذوقه وأستمتع بكثير منه، غير أن «الزيادة أخت النقص» كما يقال. أتذكر حين استقررت في الرياض قبل عدة سنوات، أنني لم التق أحدا إلا وعرّف نفسه على أنه كذا.. وشاعر: «معاك فلان وكيل مدرسة كذا.. وشاعر أيضا». «أخوك فلان صاحب محل تموينات كذا.. وشاعر».. الخ. في بداية عملي في الصحيفة نظمنا «طلعة» ودية للزملاء في إحدى الاستراحات، وكانت المفاجأة أن جميع الزملاء شعراء شعبيون!، طبعا باستثناء رئيس التحرير وأنا وجمال «التي بوي» البنغالي. وكان موقفا لا يحسد عليه ثلاثتنا. على سيرة المواقف التي لا يحسد عليها أحد، ابتليت وعدد من الزملاء قبل فترة بشويعر، يتشابه هو وحليب السعودية في أن الحليب خال من الدسم وهو خال من أي ذرة موهبة. يحضر إلى الصحيفة 13 مرة يوميا طالبا نشر قصائد مكسرة يمكن أن يكون مجرد التفكير في نشرها جريمة في حق الإنسانية. وحتى «نفتك من شره» نشرنا له قصيدة على مضض، لكن هل ارتحنا منه؟ كلا. كنا كمن يسكب البنزين على النار. أصبح يداوم في الصحيفة أفضل من الموظفين المتفرغين. نتصبح ونتمسى بوجهه حتى لم نعد نستطيع إنهاء أعمالنا. أخيرا خرجت عن طوري وطلبت منه عدم الحضور مرة أخرى، ورجوت الأمن منعه من الدخول. لكن هل يتأثر؟ هل يشعر؟. كلا. صار يتصل عشرات المرات يوميا. تتجاهل اتصالاته فيزيد عيار الاتصال. تقفل السماعة في وجهه فيرسل رسالةعتب: «لم أتوقع أن تغلق السماعة في وجهي يا صديقي العزيز» ويعاود الاتصال فورا. أنا أؤمن أن الإنسان خلق من طين. لكن مع نموذج بشري كهذا، فلا بد أن يساورني الشك في أن بعض البشر خلق من غراء «يو اتش يو». الملخص أن هذه الأزمة الكارثية لم تنته إلا بعدما غيرت رقم هاتفي. أين كنا؟. آه. في أن «الزيادة أخت النقص». أن الإغراق في الشعر وتصفيف الكلام وصناعة هالة كبرى حوله مع تجاهل المبدعين في مجالات مفيدة، يقتل الإبداع والموهبة والابتكار. أشاهد عشرات المسابقات الشعرية، على ما تجره من عنصرية، ولا أشاهد مسابقة واحدة للابتكار بالحجم نفسه. كيف نتوقع أن نصنع مبتكرين إذن؟