ليل نهار، تطالع أعيننا التحية الصفراء، لكننا لا نملك ردها، هكذا تعلمنا: «رد التحية بأحسن منها». في الغالب يردها الكثيرون بمثلها، ولكن في حالات عديدة يردونها بأحسن منها، ولكنها على غرار حي وادفع. جمهور عريض يلقي التحية على سكان الرياض، فلا وقت محددا لها، لأنها ببساطة تحية لا تعرف حدود الزمن، وكلمة تتعدى قاموس الغضب، وجملة لا تملك أمامها إلا الانصياع، ولكن أي انصياع. بعض السكان المتلقين للتحية الصفراء، يردون ولا يدفعون، وبعضهم الآخر يعرف أن الرد دفع، فلا يرد حتى لا يدفع، بينما النموذج الثالث هو من يدفع دون أن يكلف نفسه عناء الرد: «المهم الدفع، هكذا اعتدنا في التعامل مع تلك الجملة». في الرياض العاصمة، يلوك «السلام عليكم»، أكثر من ربع مليون عامل يرتدون القميص أو لعله البدلة الصفراء، يدفعون عربات النفايات ليل نهار، فالعمل متواصل، والأمر حازم: «لا أمل إلا في العمل»، فلا وقت إلا لتوفير لقمة العيش. هنا في العاصمة، لا يستنكر السكان ما يقوم به هؤلاء: «نعرف قيمة دورهم، ونقدر مدى تعبهم، ولا نبخسهم أشياءهم، بل في حالات كثيرة نتعاطف معهم دفعا والتزاما، بعضها كصدقة وزكاة «ربما»، وبعضها لدفع الضرر والفقر، وبعضها الآخر خوفا من الانتقام الرباني، فالصدقة تطفئ غضب الرب». لكن لا أحد يعترف أنه مضطر إلى الدفع: «إذا أردنا الدفع، فهذا من شيمتنا، وإذا منعنا فلا محفز لدفعنا، لكننا بصراحة لا نعرف معنى السلام عليكم التي تتردد على مسامعنا ليل نهار، لا نعرف، قيمتها لدى تلك العمالة التي تنتشر في الشوارع والأحياء، لم نقف عندها، ربما نشعر أن معناها سلام يوحي بالانتباه بأن هناك شخصا يقتسم معك الطريق، فلا تجد نفسك إلا أن تتمرد على حالة انعزالك وتدفع بلا إرادة، لكن صحيح ما السر؟». بداية السلام لوحة التحية الجميلة، ليس من العدالة أن تتزين بنفايات البشر، والمشهد السريالي النقاء، ليس من أخلاق الإنسانية خدشه بالغرائزية، لكن ترى من أوجد المعادلة الفاجعة التي يكابد في حلها عامل النظافة؟ المعادلة شبه معقدة، على الرغم من أن المشهد واضح للجميع، عند استقبالهم لك ب«سلام عليكم»، في أي طريق تسلكه وأي بقعة توجد فيها تجدهم يجرون أذناب العربات الصفراء، التي لا تعبر إلا عن النظافة، على الرغم من منظرها الخارجي المقزز، ويبقى السؤال ما سر التحية التي لا تنطق إلا في وجود عابر طريق، وليس عابر سبيل، لأنهم ربما يعدون أنفسهم الوحيدين عابري سبيل. المغزى والرد العديد ممن طرحنا عليهم السؤال، حول مغزى «السلام عليكم» التي يهديها أكثر من ربع مليون عامل نظافة في العاصمة الرياض، يدركون أنهم لا يعرفون المعنى، لكنهم ربما يتجاوبون: «ربما يعلمونهم سحر الكلمة، فيأسرون خواطرنا، لندفع، وربما يبادرون بأنفسهم فإذا وجدوا المقابل أعادوا السلام، وكرروه لأنه بات كالدجاجة التي تدر ذهبا». لكن خالد الحربي استنكر الجهل بالمعنى، وتوقف عن الاستمرار في الأمر الواقع: «كنت سابقا أتعاطف مع عاملي النظافة حيال سلامهم، في كل مرة أجدهم فيها، الأمر الذي يجعلني أقوم بالتصدق عليهم بما تجود به نفسي، ولكن مع انتشار الجرائم التي نسمع عنها من العمالة من بيع للمسكرات وترويج للدعارة، وممارسة أعمال لم نكن نتوقعها من بني البشر، كل ذلك جعلني أغير الصورة تجاههم وأقوم بتجاهلهم في أي مكان أجدهم فيه، وهذا ما قمت به، وعلى الرغم من ذلك إلا أنني أجد نفسي متعاطفا مع بعضهم خصوصا ال«رجل الأصفر» الذي يتعرض يوميا إلى مخاطر مختلفة تجعله عرضة لإصابات متنوعة، سواء الجروح المختلفة، أو تلقي بعض الأمراض التي يصاب بها، نظرا إلى اتصالهم المباشر بالنفايات بكل أنواعها، وآخرون تعرضوا لاستفزازات وحتى الضرب من طرف بعضهم الذين لا يدركون للأسف قيمة عامل النظافة الذي يشقى من أجل نظافتهم لا غير». أموال مهدرة لكن عبدالرحمن العسعوس – موظف – يرى أن عمال النظافة: «يتجولون في الشوارع والطرقات، دافعين عرباتهم الصفراء، ويعملون بجد تحت حرارة الشمس وآخر الليل على نظافة المدينة، وهذا جهد يشكرون عليه، ولكن هذا لا يدفعني إلى أن أعطيهم مبلغا من المال، حتى ولو كانت مجرد ريالات معدودات، وشخصيا أواجه العديد منهم عند إشارات المرور ويبادلونني التحية، فأرد عليهم التحية بمثلها، ولكنني في اليوم الواحد أتوقف عند مئات الإشارات المرورية مرورا بالطرقات والشوارع وأجدهم في كل مكان، فلو سايرت نفسي وتصدقت على كل واحد منهم لذهب مالي كله لعامل البلدية، ولكن ليس هذا دليلا على شح يدي ولكنني أقوم بمساعدتهم في الوقت الذي أجد بأنني مقتدر». خدعة ذكية ويصر العسعوس على أن تحية عمال البلدية خدعة: «يبدون الضعف طلبا للتعاطف منا، ولكن لا يجب ألا ننظر إلى عواطفنا بل علينا أن ننظر بعقولنا، ونتذكر أن هنالك من يستحق المال أكثر من عامل النظافة الذي يقبض كل نهاية شهر راتبا، حتى وإن كان قليلا، فلو أننا ندفع كل عامل يتقاضى يوميا متوسط ريالا واحدا، لأصبح يجمع 30 ريالا شهريا، ومن هنا نجد أن المجتمع يدفع أكثر من ستة ملايين ريال على رد السلام، إذ إننا حصرنا تعداد عمالة البلدية في ربع مليون عامل». محبوب من الجميع عامل النظافة مخلوف شادير 35 عاما ، يعمل في المملكة منذ عدة أعوام، ولم يسبق له الاغتراب في أي بلد عربي: «المملكة هي أول دولة عربية أعمل فيها، منذ أعوام، وأجد نفسي محبوبا من الجميع، وما أمارسه عملا شريفا، وإن لم يكن يدر علي الكثير من المال، ونحن إذا رفعنا أيدينا بالسلام، فليست طلبا للصدقة أو استعطافا من أحد، لكنها الجملة المعتادة التي علمتنا إياها الشركة التي استقدمتنا، علمونا ثقافة التعامل مع السعودي وأول تلك التعليمات هي إلقاء تحية الإسلام «السلام عليكم»، حتى وإن كنت غير مسلم». ليست للصدقة ويعترف شادير: «غالبية من نمطرهم بالسلام صباح مساء، اعتادوا على الجملة، وتحولت من ثقافة سلام إلى ثقافة استسلام لأمر الدفع، يعتقد الناس أننا حين نسلم عليهم نقصد من ذلك طلب صدقة بطريقة غير مباشرة، أو أننا نمارس ألعوبة قذرة، والحقيقة أنني لست من تلك الفئة، فأنا أسلم على من أراه يستحق أن أسلم عليه وغير ذلك اكتفي بابتسامة أوجهها إليه». ضيق الحال ويعتز عامل نظافة شاهدار 45 عاما بإلقاء السلام يوميا على العابرين: «أحب أن أتحدث مع السعوديين كل يوم، وفي كل فرصة أجدها سانحة لي حتى أقوي من لغتي العربية من ناحية، وأجد عددا من الريالات من ناحية أخرى، ويعلم الجميع أننا نتقاضى راتبا ضعيفا جدا، مقارنة بالعيش في بلد كالمملكة، إذ لا يتجاوز 300 ريال، وأحيانا لا نتقاضاها شهريا، بل ربما يمر علينا شهران أو ثلاثة، دون استلام ريال واحد، كما أن الشركة التي نعمل فيها تقدم لنا وجبتين في اليوم الواحد «إفطار وعشاء» فقط، كما أنها تجمع كل 15 عاملا وتضعهم في غرفة واحدة للنوم، وهذا أمر معقد جدا، لكن ضيق العيش يجعلني وغيري بأن نصبر فليس لنا غير ذلك»